لا يزال بعض رموز الثقافة العربية المعاصرة غائبين عن التعريف الاعلامي، ومنهم الكاتب السعودي عبدالكريم الجهيمان، الذي استضافته "الوسط" للتعريف بأعماله الرائدة في مجالات المقالة والاهتمام بالمأثورات الشعبية، كالامثال والحكايات، ومساهمته في الكتابة للاطفال وفي أدب الرحلات. وفي ما يلي اللقاء - التعريف: أسس عبدالكريم الجهيمان 81 عاماً صحيفة "أخبار الظهران" ورأس تحريرها لمدة ثلاثة اعوام 1954 - 1957 وكتب مقالاً اسبوعياً في صحيفة "اليمامة" التي أنشأها الشيخ حمد الجاسر، واشرف على تحرير صحيفة "القصيم"، لينصرف عن الصحافة الى مجال المأثورات الشعبية مدوناً ما يتردد على الشفاه من امثال وحكايات موروثة، ولم يسبقه في هذا المجال سوى الشيخ محمد العبودي الذي أصدر كتاباً يضم اكثر من الف مثل. واستطاع عبدالكريم الجهيمان، بعد حوالى عشرين عاماً من المتابعة المضنية، جمع عشرة آلاف مثل شعبي طبعها في عشرة اجزاء، كما اصدر خمسة مجلدات تضم ما جمع من قصص شعبية سعودية… وفي مجال الكتابة للاطفال الف الجهيمان سلسلتين، تحمل الاولى اسم "مكتبة الطفل في الجزيرة العربية: عشر قصص" والثانية اسمها "مكتبة اشبال العرب" وتضم ايضاً عشر قصص… وكتب في ادب الرحلات كتابين: "دورة مع الشمس" يصف فيه رحلته حول العالم، و"ذكريات باريس" الذي يضم تفاصيل عن رحلته الى العاصمة الفرنسية حيث اقام سبعة اشهر. أما كتب عبدالكريم الاخرى، فهي "دخان ولهب"، "أين الطريق؟!"، "آراء فرد من الشعب"، "احاديث واحداث". وتشتمل على مقالات مختارة نشرها في الصحافة السعودية. وقبل ان نتوجه الى منزل عبدالكريم الجهيمان، بمدينة الرياض، كنا نتصفح الكتاب الذي اصدره الصحافي السعودي الشاب ناصر الحميدي تحت عنوان "رحلة ابي سهيل - قراءات في حياة وادب عبدالكريم الجهيمان"، وتوقفنا عند بعض مقاطع المقدمة التي كتبها فهد العريفي مدير عام مؤسسة اليمامة الصحافية حيث يقول عن الجهيمان: "صاحبنا، بل استاذنا عبدالكريم الجهيمان، هو في طليعة هذه النخبة الواعية في بلادنا، اولئك الذين رحلوا من نجد الى الحجاز للاهتمام بالمعرفة وبرغم ما كانوا يعانونه من فقر وفاقة وبرغم حاجة اهلهم ليشدوا من عضدهم في مجال الزراعة والبحث عن لقمة العيش… رحلوا لطلب العلم والمعرفة وعادوا بعد نجاحهم ليخدموا هذا الجزء من وطننا العزيز … كان يناضل في سبيل رفعة الامة ورقيها. صاح من اجل حرية فلسطين والجزائر ولبنان ومصر، وكتب وناضل في سبيل كرامة الامة في كل ربوعها". قبل أن نبدأ الحوار معه، قال الجهيمان، "لقد اعتدت على بساطة القول ومختصر الكلام، فلا تدعنا ندخل الى تعقيدات الامور. انت تعرف انني لا احب ولا اقبل الحوارات الصحافية لان ليس هناك ما سأقوله اكثر مما قلته في كتبي". اعتقدنا ان هذا الموقف نابع من عزوفه عن العمل الصحافي، الذي هجره بعد تجربة مع جريدة "القصيم"، لذلك، كان المحور الاول للاسئلة عن التجربة الصحافية: من خلال ريادتك في المجال الصحافي، كيف ترى ابا سهيل ماضي الصحافة السعودية وواقعها اليوم في ظل نظام المؤسسات ومع توفر الامكانات المتطورة؟! - لا شك ان صحافة المؤسسات أكثر ترتيباً وتنظيماً، وهي استطاعت من خلال توفر كافة الامكانات ان توسع قاعدة اخبارها وقرائها. هذه الامكانات لم تكن متوفرة لدى صحافة الافراد، والتي سبقت صحافة المؤسسات، لكنك تستطيع ان تطرح المقارنة من خلال "الرأي" المطروح في التجربتين. في صحافة الافراد، كانت الآراء تفيض حرية واخلاصاً ووطنية، وقد لا تخلو من الاندفاع، اندفاعاً يحفزه حب الوطن والتطلع الى الكمال… أنا شخصياً أقدّس حرية "الرأي" في حدود الانظمة المعمول بها. الصحافة واحدة من المؤسسات الثقافية التي تصنع أو تنتج شخصية الفرد، سواء ذلك الذي يعمل في نفس المؤسسة الشخصية المنتجة، او المتلقي الشخصية المستهلكة… هل يمكن تسليط الضوء على هاتين الشخصيتين قديماً وحديثاً؟! - الصحافة سلطة رابعة، فمن الطبيعي ان تؤثر في كل زمان ومكان على المواطن وعلى السلطات. ولقد استفدت انا شخصياً من تجربتي كرئيس لتحرير جريدة "اخبار الظهران"، فلقد كان يصلني العديد من الاراء المتطرفة، أو الآراء المعتدلة واحاول قدر الامكان صياغة الرأي الموجه للمصلحة العامة، وهذا الرأي بالتالي سيؤثر على القارئ… وانا لا اميل الى استخدام مصطلح "المتلقي" واعتقد ان كلمة القارئ تعبر عنه بشكل أدق. خلال الستينيات الميلادية، كان لك دور بارز في وضع بعض المقررات الدراسية كيف تحكم اليوم على مساهمتك؟! - كان التعليم انذاك بدائياً، فلم تكن لدينا وزارة للمعارف ولم يكن ثمة مدارس كثيرة. لذلك كانت المقررات الدراسية تأخذ نفس الايقاع العام. وبالنسبة لي، فلقد كانت مساهماتي مقتصرة على مقرر الفقه والتوحيد، وهذان العلمان يعتمدان على حسن الاختيار والترتيب والتعبير، ليقرب فهمهما للطلاب الصغار. ومهما تطورت وسائل التعليم، الا ان هناك حقائق ثابتة في هذين العلمين لا يمكن تغييرهما، لكنني في نفس الوقت اؤمن بإمكانية تطوير طرق العرض وصياغة الاسلوب. هل تعتقد أن المنهج الدراسي المعاصر يتلاءم مع عقلية الطفل التي بدأت تحتشد بالخيال العلمي وفنون الحاسب الآلي؟! ولماذا يبقى هذا المنهج ثوباً يخلعه الطفل بمجرد خروجه من عتبة المدرسة؟! - أرى انه يجب اعادة النظر في المناهج واللوائح التنظيمية ومختلف الانظمة الوضعية ما بين السنة والاخرى، لكي نضمن صلاحيتها للعصر المتجدد الذي نعيش فيه. لقد كتبت كثيراً في هذا الجانب، واوضحت ان اللحاق بركب الحضارة يتطلب ذهنية حضارية ايضاً تواكب المستجدات، خصوصاً في مجال التعليم. فليس من مهمة المدارس والمعاهد حشو اذهان الطلاب بالعلوم والمعرفة، وانما ان تبني في عقولهم قواعد البحث. ما هي في نظرك افضل الوسائل لتطوير المنهج الدراسي للطفل العربي ونقله من مرحلته الخطابية الى مرحلة الحوار المتكافئ؟! - من الخير للطفل العربي ألا نزحم فكره بشتى العلوم وتفريعاتها، بل يجب ان نعلمه اسس العلوم، وان نبدأ بأهم هذه الاسس. وان نتيح له ان يفكر وان يستنتج الفروع من اصولها وان ننمي فيه منهج الحوار والمناقشة ليصل بنفسه الى النتائج العلمية. وهذا سيتم ببثّ روح الثقة في الطفل وتحبيب القراءة له مع مراعاتنا لمراحله العمرية. أدب الطفل الكتابة للطفل واحدة من الاشكال التي يجب ان يؤسس الكاتب من خلالها مخيلة خصبة تهزّ وجدان الطفل قبل ان تؤثر عليه… كيف ترى الحال الراهنة لادب الطفل العربي؟! وهل استطاعت التحاور مع مخيلته المعاصرة؟! - من خلال تجربتي في الكتابة للطفل، توصلت الى ان الطفل يميل الى القصص ذات الايقاع الحركي المستمر… التي تحمل في طياتها صراعاً بين قوتين. كما انه ميّال الى القصص التي تستنطق الكائنات الحية غير الآدمية مثل الحيوانات، بكل ما يدور بينها من مكر وخديعة. ان تلبية هذا الاتجاه، او اي اتجاه فني آخر، سيغرس في الاطفال روح المثابرة وحب المعرفة بأسرار الحياة وصراعاتها. تختلف المواضيع التي يختارها الكاتب للتأثير على الطفل. ويعتمد في اختياره على مبررات تحكمها الظروف الموضوعية التي يعيش ضمنها الطفل ومرونة المناخ المتاح للكاتب… لماذا ركزت في كتاباتك للطفل على التراث الشعبي والاساطير؟! - غرائز طفل اليوم هي نفس غرائز طفل الامس. الظروف التي تواكب التطور او تحيط بالمكان قد تخلق تطوراً او تمايزاً لكنها لا تغير اساس او صميم الغرائز… ومن هنا، تلاحظ ان اطفال اليوم مغرمون بالرسوم المتحركة المتلفزة، في حين ان اطفال الامس كانوا ميّالين الى القصص المصورة التي تدور احداثها بين الحيوانات او النباتات، صراعاً من اجل البقاء… وهذا الجانب تشترك فيه جميعپمخلقوات الله، ولذلك ركزت عليه. يرى البعض ان المدارس الحديثة للكتابة للطفل، خصوصا، في اليابان وفرنسا ودول اوروبا الشرقية، تنطلق من منح مسافة من الحرية للطفل لكي يشترك مع موضوع النص كما تعتمد على طرح مفاهيم معاصرة مثل حرية الرأي واحترام الآخر ودعم التفكير العلمي وغيرها من القيم التي تنسف المفاهيم التقليدية وتلك التي اصبحت جزءاً من التراث المثالي مثل الكرم المبالغ فيه والشجاعة الفدائية وما الى ذلك… ما رأيك؟! - النظريات التي تتبناها الدول المتقدمة مثل اليابان وفرنسا في اعطاء الطفل مساحة من الحرية لاشراكه في البحث والتفكير، نظريات ذات نهج علمي يؤدي الى تشكيل شخصية مستقلة للطفل تساهم في بناء مجتمع متجانس… اما في ما يتعلق بالقيم التقليدية مثل الكرم او الشجاعة فهي تظل دوماً قيماً عظيمة اذا تجنبت التطرف والتزمت. واتجهت الى الاعتدال، وهذا ما دعا اليه الاسلام، الذي يحمل الكثير من الملامح التي تضمن للطفل مساحة واسعة من حرية التفكير. الأمثال الشعبية لك جهد كبير في جمع الامثال والاساطير الشعبية، فما هي المرجعية الفكرية التي استندت اليها في هذا التدوين؟! - مراجعي في تدوين الامثال والاساطير الشعبية ثلاثة. المرجع الاول ما اختزنته ذاكرتي من عهد الطفولة الى الشباب الى الكهولة الى الشيخوخة. والمرجع الثاني هو ما اسمعه من افواه الناس اثناء احاديثهم ومخاصماتهم. فأنا ميّال بطبعي الى الاختلاط بكافة الطبقات، الشباب والشيوخ، البدو والحضر، المثقفين والعوام، المرجع الثالث هو ما تم تدوينه من القصائد الشعبية ففيها الكثير من الامثال والحكم التي لم يأخذوها من بطون الكتب، انما اكتسبوها عن طريق التجارب والمعاناة الحياتية. ما هو الأصل في المثل الشعبي: مفرداته ام معناه؟! وكيف يمكن تفسير تشابه المعاني لبعض الامثال الشعبية بين شعوب الدول العربية وربما دول العالم؟! - ليس للامثال وطن… وقد قيل: "أسْيَدُ من مثل". فالامثال تنشأ نتيجة ظروف اجتماعية او سياسية او دينية. واي شعبين تتماثل ظروفهما في اي شأن من شؤون الحياة، فإن امثالهما قد تتشابه او تتقارب، مهما تباعدت بينهما المسافات. واذا نظرنا الى أمثال أهل البوادي، سنجدها تختلف عن امثال اهل المدن. او عن تلك التي يطلقها سكان السواحل، وقد يكون الاختلاف منصباً على اللفظ، لكن المعنى واحد، لانه جاء نتيجة تجارب متشابهة. وعلى اية حال، فإن داخل كل مثل قصته الخاصة. وبمرور الزمن وتعاقب الاجيال، تموت القصة ويبقى المثل اشارة لها. ومن هنا تتسع دائرة المثل. يقال إن الاسطورة خروج حالم من الواقع المعاش، يؤكد المؤسطر من خلالها هروبه من الفضاء المادي الى الفضاء الميتافيزيقي، الا ان بعض الدارسين يثبت علمية بعض هذه الاساطير… كيف يتحول النص الى اسطورة؟! وما مدى اسهام الجماعة في اضفاء الطابع الاسطوري على النص الاساسي الى درجة غياب الكاتب الاصلي؟! وكيف نعرف كاتب الاسطورة الاصلي؟! - تحتوي الاسطورة الشعبية على اصول عدة. الاصل الظاهر للترويح عن الجماعة الامية والتي كانت تفتقر للوسائل الترفيهية كالاذاعة والتلفزيون… الأصل الآخر هو انها جاءت نتيجة ضغوط اجتماعية او سياسية، لذلك يلجأ واضع الاسطورة الى الهروب من المناخ الواقعي الى المناخ الدلالي، مستخدماً اجواء ميتافيزيقية لا يمكن محاسبة شخصياتها… وقد لا يكون واضع الاسطورة واحداً، فقد يضع الاول هيكلها ثم يتناولها الثاني والثالث بالاضافة والتطوير حتى تكتمل في سياقها الجماعي المؤثر. أدب الرحلات لم ينجح ادب الرحلات الذي اسهمت فيه عبر كتابين، في ارساء جنس ابداعي مستقل له مدارسه ورواده ومحبوه الى درجة صنّف معها ضمن المقالة الصحافية… هل هذا صحيح؟! - ليس صحيحاً ان ادب الرحلات لم ينجح في هذا المجال، بل كان له رواد ومعجبون في قديم الزمان وحديثه… فرحلة "ابن بطوطة" و"ابن جبير" لا تزالان مقروءتين حتى الآن، وكذلك كتب الرحلات المكتوبة حديثاً. هذا الفن يتجول في عقلك وتفكيرك في جميع انحاء العالم من دون ان تبارح مكانك… ترى بلاداً لم ترها وتصافح اناساً لم تعرفهم من قبل، وتفتح عينيك على أخلاقهم وطبائعهم وضروب معيشتهم، وتتبصر في مشارب علومهم ومعارفهم. اما السبب الذي جعل المقالة الصحافية تتفوق على ادب الرحلات، فهو الحيز المقرر للصحيفة والتي يجب ان تملأ بالمقالات، وهذه المقالات تفتقر الى العمق، وليس في امكانها منح القارئ علوماً ومعارف جديدة كما يفعل ادب الرحلات. في ظل تطور وسائل الاتصال الاعلامي المباشر، وسهولة السفر الى كل بقاع العالم وتوفر سفارات الدول الاجنبية ونشراتها السياحية التعريفية، أيستطيع أدب الرحلات أن يقول شيئاً جديداً؟! - الحياة تتطور وتتجدد باطراد مستمر، وما تراه كسائح اليوم، قد يتغير في الغد. وحين يسجل أدب الرحلات ما يراه اليوم، فإنه يحيله الى تاريخ مكتوب، يحمل وجهة نظر الكاتب فيما رآه… أنا أؤمن بأن التجديد لن يقف عند حد، الى ان يرث الله الارض ومن عليها، ومن هنا تأتي اهمية رصد وتسجيل حياة الشعوب، وهذا ما يفعله أدب الرحلات.