ربما تعود الولاياتالمتحدة ب "خفي حنين" فيما يتعلق بأهم أهدافها العالمية من وراء الحرب على العراق. فتمثل هذه الحرب مرحلة متقدمة في سعيها الى تكريس طابع أحادي للنظام العالمي - ويتصور بعض الأميركيين الذين يوجهون هذا المسعى فكرياً إمكان استمرار النظام أحادي القطبية Unilateral طوال القرن الحالي على الأقل. ويتمتع هؤلاء مثل وليام كريستول ووليام كوهين واليوت أبرامز وراندي شوغان وبول ولفوفيتز وغيرهم بنفوذ ملموس في داخل إدارة الرئيس بوش الثاني. كما أن لهم امتداداً في المجالات المالية والمصرفية والإعلامية عبر مديرين يسيطرون على عدد يعتد به من الشركات الأميركية القوية. ويمكن أن نجد ملامح أساسية لرؤية هذه المجموعة التي تعبر عن فكر اليمين المحافظ الجديد في عدد من المجلات والدوريات أهمها Weekly Standard وفي كتب أبرزها كتاب وليام كوهين تحت عنوان "القوة العسكرية الأميركية". وهو الكتاب الذي تعمد الرئيس بوش أن يظهر أمام الكاميرات فى مزرعته بتكساس وهو يحمله. كما أن لهذه المجموعة وثائق ربما يكون "برنامج القرن الأميركي" هو أكثرها دلالة بشأن هدفها الأول وهو إقامة نظام عالمي أحادي القطبية في شكل واضح وصريح وإنهاء ما يعتبرونه فترة انتقالية طويلة امتدت منذ سقوط النظام السابق ثنائي القطبية Bilateral مع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه فى مطلع العقد الماضي. ويجوز وصف تلك الفترة التي تجاوزت عشر سنوات الآن بأنها شهدت مزيجا من الأحادية القطبية وتعدد الأقطاب بحكم التفوق الذي تتمتع به الولاياتالمتحدة من ناحية ومحاولة القوى الدولية الكبرى الأخرى دعم دورها فى تحديد جدول الأعمال العالمي رغم فجوة القوة التى تفصلها عن أميركا. فقد اعتمدت إدارتا الرئيس السابق بيل كلينتون "كانون الثاني يناير 1993- وكانون الثاني يناير 2001" سياسة تقوم على مزيج من القوة والديبلوماسية، والتشدد والمرونة، من أجل التقدم صوب عالم تنفرد أميركا بقمته ولكن بشكل تدريجي ومن دون الدخول فى مواجهات حادة مع القوى الدولية الأخرى. غير أن إدارة بوش تبنت منذ اليوم الأول لها سياسة مختلفة ترمي إلى استخدام قوة الولاياتالمتحدة بشكل سافر لتأكيد تفوقها على القوى الدولية الأخرى. وجاءت أحداث 11 ايلول سبتمبر لتدفعها إلى مزيد من الجموح في سعيها لتحقيق هذا الهدف فى أقصر وقت ممكن. وظهر ذلك فى إدارتها لأزمة العراق بطريقة جعلت تفادي الحرب مستحيلاً إلا عبر تحقيق مطلبها الأول وهو تنحي النظام العراقي واستبداله. فكان تسلسل الأحداث التي أدت إلى اندلاع الحرب معبرا عن رغبة واشنطن في جعل هذه الأزمة ساحة يتبلور من خلالها النظام العالمي أحادي القطبية. فهي تريد إظهار أن أياً من القوى الدولية الأخرى لا يستطيع تغيير أو تعطيل حركتها الدولية وأنها تمتلك القدرة على تنفيذ ما تريده بغض النظر عن حجم المعارضة التى تواجهها فى العالم. فقد ذهبت إلى الأممالمتحدة ونجحت في استصدار القرار 1441 من مجلس الأمن لإعطاء النظام العراقي الفرصة الأخيرة لنزع أسلحته المحظورة سلميا أو إثبات عدم وجود هذه الأسلحة. ولكن بمنأى عن الإجراءات التي نص عليها هذا القرار مضت واشنطن قدماً، ومعها لندن، لشن الهجوم العسكري بمساعدة عسكرية محدودة من استراليا ودعم سياسي من نحو أربعين دولة تمثل أقل من ربع دول العالم. فلم تتمكن الولاياتالمتحدة من تشكيل تحالف دولي واسع النطاق بخلاف ما كان عليه الحال فى حرب الخليج الثانية عام ،1991 ويثير ذلك سؤالا محوريا عن نتائج هذا التحرك الأميركي في ما يتعلق بهيكل النظام العالمي وإلى أي مدى تستطيع تكريس طابع أحادي له في ظل معارضة قوية من القوى الدولية الكبرى وفي مقدمها فرنسا وروسيا والصين ومعها ألمانيا. فأحد أهم الأسس التي يقوم عليها موقف اليمين المحافظ الجديد الذى يتمتع بنفوذ قوي فى داخل إدارة بوش هو الاعتقاد في أن القوة الأميركية الفريدة فى نوعها تغني عن أي دعم دولي وتتيح الانفراد بقمة النظام العالمي بغض النظر عن أي معارضة. ووصل الأمر إلى حد أن طالب بعض الصقور في هذه الإدارة بالتفكير جديا في إيجاد منظمة دولية بديلة عن الأممالمتحدة تعبر عن ميزان القوى الفعلي في عالم اليوم وتتمتع فيها واشنطن بالتالي بنفوذ يعادل قوتها في إطار هذا الميزان. فإذا اعترضت الدول التى وقفت ضد إصدار قرار جديد يبيح استخدام القوة ضد العراق، يرى هؤلاء أن تنسحب الولاياتالمتحدة منها وتنشئ منظمة دولية أخرى تضم - كنواة - الدول التي أيدت حملتها العسكرية ضد العراق. وربما يبدو هذا الطرح للوهلة الأولى واقعيا بالنظر إلى حجم القوة الأميركية والفجوة الواسعة التي تفصل بينها وبين الدول التي تأتي بعدها في سلم القوة على الصعيد الدولي. فقد أنفقت على البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي أكثر مما أنفقته الدول الأوروبية مجتمعة خلال السنوات العشرين الأخيرة. ولذلك أصبحت تقف على قمة الهرم التكنولوجي بمسافة بعيدة تفصلها عن الدول التالية لها مثل اليابانوفرنساوألمانيا. وقد أتاح لها ذلك امتلاك عناصر قوة جديدة في نوعها تدعم قدرتها على الاستمرار لفترة طويلة في وضع الدولة العظمى الأولى إلي أن تستطيع دولة أخرى أن تصل إلى المستوى نفسه في التفوق التكنولوجي فتشاركها القمة العالمية أو أن تبزها فى هذا المجال فتحتل مكانها على قمة هرم التكنولوجيا فى العالم. غير أن ثمة فرقاً كبيراً بين أن تقف الولاياتالمتحدة في قمة النظام العالمي وبين أن تنفرد بإدارة هذا النظام وتحديد جدول أعماله وفرض إرادتها متى شاءت والسيطرة على غيرها إذا أرادت. فالوقوف في قمة العالم لا يستلزم قبول الدول الأخرى به أو تفاهماً دولياً عليه. إنه معطى من معطيات الواقع. أما الانفراد بإدارة العالم فيحتاج إلى قبول به وتفاهم عليه. فإذا لم يتوافر القبول والتفاهم لا تستطيع الولاياتالمتحدة إقامة النظام العالمي أحادي القطبية الذي تريده ويسعى صقور اليمين المحافظ الجديد إلى تأسيسه انطلاقاً من الحرب الراهنة على العراق. فمن الصعب فرض نظام عالمي بالقوة أو النفوذ خصوصا إذا كان الأمر يقتضي تغييرا أساسيا فى قواعد العلاقات الدولية المعمول بها منذ فترة طويلة. فلم يشهد العالم نظاما أحادي القطبية منذ أن عرفنا حالة النظام العالمي الحديث القائم على الدولة القومية. فالأصل في النظام العالمي أن يكون متعدد الأقطاب Multipolar وأن يتم التفاهم بين هذه الأقطاب وتقنين ما يتفاهمون عليه بصورة أو بأخرى. فقد ظل النظام العالمي متعدد الأقطاب منذ بزوغ العلاقات الدولية الحديثة في القرن السابع عشر بعد إقرار صيغة الدولة القومية. وعندما حاولت فرنسا الثورية البونابرتية تغيير هيكل النظام العالمي بالقوة سعيا إلى الانفراد بقمته بعد ثورتها الكبرى العام 1789 تحالفت دول أوروبية عدة ضدها وفرضت عليها التراجع. وعندئذ أعيد تشكيل النظام العالمي على أساس تعدد الأقطاب في مؤتمر فيينا المشهور العام 1815، وظل هذا النظام سارياً الى أن وقعت الحرب العالمية الأولى 1914-1918 فأعيد بناؤه بعدها وفق شروط الدول المنتصرة. فظل محتفظا بطابعه التعددي مع استبعاد الدول المهزومة من قمته. وعندما وصل هتلر الى السلطة في ألمانيا التي كانت إحدى الدول المهزومة فى الحرب الأولى تصور أن فى إمكانه ليس فقط تعويض الهزيمة ولكن أيضا فرض هيمنة بلاده بالتعاون مع إيطالياواليابان وبالتالي إقامة نظام أقرب إلى القطب الواحد منه إلى تعدد الأقطاب. وكانت هذه هي المحاولة الثانية لإيجاد نظام أحادي القطبية بعد فشل محاولة نابليون بونابرت. وقد أخفقت بدورها عندما هٌزمت ألمانياوإيطالياواليابان في الحرب العالمية الثانية. وهنا يسود الاعتقاد في أن النظام العالمي صار ثنائي القطبية على الفور. غير أن ما حدث بعد تلك الحرب هو إعادة تشكيل النظام متعدد الأقطاب في يالطا وبوتسدام. وكانت منظمة الأممالمتحدة تعبيرا عن هذا التعدد الذي ظهر فى حصول الدول الأربع المنتصرة أميركا والاتحاد السوفياتي وبريطانياوفرنسا على حق الاعتراض في الجهاز الأساسي لهذه المنظمة وهو مجلس الأمن. وأضيفت اليها تايوان التي حلت محلها الصين الشعبية فيما بعد. فالنظام العالمي لما بعد الحرب الثانية بدأ متعدد الأقطاب واستمر كذلك نحو عشر سنوات اكتمل خلالها التغير الذي كان بدأ يحدث فى ميزان القوى عبر تركيز أهم مصادر القوة لدى واشنطن وموسكو. وقبلت بريطانياوفرنسا بهذا الأمر الواقع لأنهما كانتا فى حاجة إلى حماية الولاياتالمتحدة لهما إزاء التهديد العسكري السوفياتي القريب منهما. ولولا ذلك لما تطور النظام فى اتجاه القطبية الثنائية. ولذلك فإن الأصل في النظام العالمي هو التعدد. وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون استثناء لأنه يصعب أن تقبل دول كبرى بمحض ارادتها واختيارها أن تتحكم دولة واحدة في هذا النظام. كما أن هناك حدودا لقدرة دولة واحدة أياً يكن مدى قوتها على ارغام غيرها على الامتثال لها. ولذلك فمن المشكوك فيه أن تتمكن الولاياتالمتحدة من إقامة نظام عالمي أحادي القطبية عقب انتهاء الحرب الراهنة التي عجزت الدول الكبرى المعارضة لها عن منع وقوعها. فكما أن ثمة فرقاً بين الوقوف على قمة العالم والانفراد بإدارته، هناك أيضاً فرق بين عجز دول مثل فرنسا وروسيا وألمانيا عن التأثير في السياسة الأميركية وبين الامتثال لهذه السياسة أو الرضوخ لها. فلا نظام عالمياً من دون قبول وتفاهم. وإذا حاولت واشنطن أن تلجأ إلى الإرغام بدلا من التفاهم فقد يؤدي هذا الى تفكك النظام العالمي أكثر مما يقود إلى إضفاء الطابع الأحادي الذي تريده عليه. وعندئذ يتصاعد التوتر بين الولاياتالمتحدة ومعارضي هيمنتها على العالم. غير أن هذا التوتر قد ينحسر سريعاً إذا فشل بوش في الفوز بفترة رئاسة ثانية في انتخابات العام المقبل. وهذا فشل يبدو متوقعاً بعد أن صار واضحاً أن الحرب سيطول أمدها، وأن خسائر القوات الأميركية فيها ستزداد على نحو يضعف مركز بوش حين يأتي يوم الحساب الانتخابي. وإذا استوعبت الإدارة الديموقراطية التي ستحكم أميركا، في هذه الحال، الدروس المستفادة من تجربة الإدارة الحالية فالأرجح أنها ستقنع بنظام عالمي متعدد الأقطاب تتمتع فيه بمكانة متميزة وليس بدور مهيمن. * كاتب مصري.