في الخامس والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر بدأ في فرنسا عرض فيلم "فتاة الهواء" للمخرج اللبناني مارون بغدادي. هذه المرة يخرج صاحب "بيروت يا بيروت" و"خارج الحياة" من أتون الحرب اللبنانية ليزرع على الشاشة فيلماً يروي حكاية حقيقية حدثت في فرنسا قبل سنوات: حكاية نادين بوجور التي هرّبت زوجها من سجنه وسط العاصمة الفرنسية بواسطة طائرة مروحية تعلمت قيادتها بصبر وهدوء… ورغبتها تكمن في الالتقاء بالرجل الذي تحبه والذي اوصلته خيبته من تمرد سنوات السنين الى الجريمة والسجن. هنا اطلالة على الفيلم ووقفة مع بطلته بياتريس دال، احدى ابرز نجوم السينما الفرنسية في اللحظة الراهنة. كان الصديقان يتنزهان معاً في شوارع باريس، حين لفت نظر احدهما كثرة عدد المطاعم اللبنانية المنتشرة في العاصمة الفرنسية، فبدأ الحديث يتجه ناحية الوجود اللبناني في فرنسا وان اللبنانيين يكادون ان يكونوا موجودين في كل مكان، وروى واحد من الصديقين للثاني انه ذات يوم كان يزور قلعة اثرية في منطقة النورماندي ففوجئ بحارس القلعة يسأله عما اذا كان لبنانياً. لماذا؟ لأن الحارس نفسه لبناني ويعمل هناك منذ ثلاثين عاماً على الاقل! ضحك الصديقان فيما كانت طائرة مروحية تعبر الجزء الجنوبي من فضاء العاصمة، فالتفت واحد منهما وقال مبالغاً: اراهن ان ثمة لبنانياً حتى داخل هذه الطائرة التي تخالف القانون بتوغلها فوق سماء باريس. الطريف ان الصديق الثاني اتصل بعد ايام بصديقه الاول منفجراً وقال له حسناً… لقد ربحت رهانك فبالفعل كان في الطائرة لبناني هو المخرج السينمائي مارون بغدادي… لكنه لم يكن مخالفاً للقانون… بل يطير بإذن من السلطات المختصة! كان مارون بغدادي، في ذلك اليوم، يقوم بأعمال الاعداد لتصوير فيلمه المقبل، وقد كلّله النجاح الطيب الذي حققه فيلمه "خارج الحياة" الذي نال جائزة التحكيم في مهرجان "كان"، وحقق اقبالاً لابأس به من الجمهور، جعل من السهل عليه ان ينتقل الى تحقيق فيلمه التالي. ولكن لئن كان بغدادي ظل في قلب الاوضاع اللبنانية في "خارج الحياة" فانه في فيلمه الثاني، الذي بدأ عرضه يوم الخامس والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر في صالات فرنسية عديدة، بدا انه خرج من الشؤون اللبنانية ليغوص في الاوضاع الفرنسية، تماماً على غرار زميليه العربيين الآخرين، اللذين يعيشان مثله ويعملان في اوروبا منذ زمن: الفلسطيني ميشال خليفي والجزائري مهدي شريف. فالاول يحقق حالياً فيلماً بلجيكياً خالصاً بعنوان "جدول اعمال اليوم"، فيما حقق الثاني منذ فترة فيلماً فرنسياً خالصاً بعنوان "في بلاد الجولييت". فاذا تنبهنا الى ان هؤلاء الثلاثة ينتمون معاً الى ذلك الجيل الذي صنع خلال العشرية الاخيرة، افضل ما وصلت اليه السينما العربية افلا يحق لنا ان نتساءل: اذن… هل ستخسرهم السينما العربية ويصبحون جزءاً من بداوة السينما، من سينما اللامكان وكل مكان؟ امرأة وطائرة مروحية في الوقت الذي كان فيه مارون بغدادي يعمل على تحضير فيلمه الجديد "فتاة الهواء" قال كالمعتذر: "انني احقق هذا الفيلم كاستراحة، واحلم ان احقق عن لبنان فيلماً كبيراً نهائياً… ومع هذا حين ينتهي الفيلم وترونه، ستكتشفون انني حتى عبر هذه الحكاية الفرنسية البحتة، لم اخرج من عباءتي وهويتي، وسيظل المنطق الذي يحكم رؤيتي منطقاً ينتمي الى هناك، الى الارض التي أتيت منها…". والواقع ان نظرة متأملة في فيلم "فتاة الهواء" الذي حققه مارون بغدادي ومثلته الفرنسية بياتريس دال وتييري فورتينو وهيبوليت جيراردو، ستقول لنا ان مارون بغدادي محق في ما يقول، ولو بصورة جزئية، تبدو للوهلة الاولى وكأنها لا ارادية وقبل هذا، نتوقف قليلاً عند الفيلم نفسه. ففي فيلمه الجديد هذا، وهو السادس الذي يحققه مارون بغدادي منذ استقراره في فرنسا عند بداية سنوات الثمانينات يستقي المخرج - مرة اخرى - موضوعه من احداث حقيقية، وهو ما فعله في كافة افلامه الاخرى التي حققها حتى الآن، حيث - باستثناء فيلمه التلفزيوني الانكليزي المأخوذ عن قصة لباتريسيا هايسميث - يستعين باحداث الواقع ليصوغ فيلما - سينمائياً هنا، تلفزيونياً في أحيان اخرى - يحمّله في نهاية الامر رؤياه الخاصة ويطرح عليه اسئلته التي ما برح يطرحها منذ افلامه اللبنانية. ولكن، اذا كان بغدادي استعار في افلامه السابقة احداثاً تنتمي الى الحرب اللبنانية بشكل او بآخر - ولا نستثني من ذلك الجانب المضمن في تفسيره لشخصية القائد الثوري الفرنسي مارا في فيلمه التلفزيوني عن الثورة الفرنسية - فانه في هذه المرة يستعير تلك الحادثة المشهورة: حادثة السيدة الفرنسية التي هرّبت زوجها من السجن في وسط العاصمة الفرنسية، امام سمع الشرطة وبصرها، قبل سنوات بواسطة طائرة مروحية عبر مغامرة استثنائية أسالت الكثير من الحبر يومها. هذه الحادثة تشكل - بالطبع - المحور الحدثي الذي بنى عليه مارون بغدادي فيلمه… غير انه - هو الآتي من الشرق - تمكن من ان يحول تلك الحادثة، الى حكاية رومانسية، والى حيز حنان يقف بالتضاد مع الاخلاقية السائدة في فرنسا عند نهاية القرن العشرين التي نعيشها. ففي فيلم مارون بغدادي لا تعود بريجيت بياتريس دال مجرد امرأة تريد ان تنقذ زوجها من السجن، بل تصبح امرأة عاشقة وآخر الرومانطيقيين، ورمزاً حقيقياً لذلك الحنان العائلي المفتقد، اضافة الى انها - في غياب تتصوره لعدالة القضاء هذا القضاء الذي يعبر عن حرمانها من عيش حياتها الزوجية العائلية الحقيقية، بسبب ما تتصور انه حماقة صغيرة ارتكبها زوجها الشقي - تقرر ان تمسك مصيرها بيديها. وهو ما يتيح لمارون بغدادي ان يتحدث عن غياب الدولة وتحمل الافراد لمصيرهم بانفسهم من جراء ذلك الغياب… وهو بهذا يقودنا مرة اخرى الى لبنان… لبنان هذا الهاجس الذي يملأ عقل مارون بغدادي ويبدو انه يقود كافة خطاه… ويرى بغدادي ان هذا الجانب من تفسير الحادثة هو الذي دفعه الى قبول العمل في هذا الفيلم! لغة السينما الاميركية المرأة التي يقدمها لنا الفيلم باسم بريجيت، هي في الحقيقة نادين بوجور التي تعرفت الى الشاب الذي ستتزوجه لاحقاً في السجن، يوم كان هارباً من الشرطة اثر حادثة سطو قام بها، وهو التجأ الى بيت نادين / بريجيت بفضل تعرفه الى اخيها في السجن وتصادقهما. ولقد كان من الطبيعي لبريجيت وسننسى نادين من الآن ولاحقاً التي كانت خارجة لتوها من قصة زواج فاشل تركت لها طفلة تحبها وترعاها، كان من الطبيعي لها ان تحب الشاب… الى درجة جعلتها - حين اعتقلته الشرطة - تبذل كل ما لديها من امكانات لاخراجه من السجن، وحين تعجز عن ذلك ويحكم زوجها بسنوات سجن طويلة، لا تجد امامها الا ان تتعلم قيادة الطائرة المروحية بدأب وهدوء ثم تستعين بصديق لزوجها ويحلقان بالطائرة فوق سجن "الصحة" في الدائرة الباريسية الثالثة عشرة ويتمكنان من "اختطافه"… واذا كان من المعروف ان الشرطة عادت والقت القبض على ميشال بوجور بعد شهور قليلة واودعته السجن حيث لا يزال مقيماً حتى اليوم، فان فيلم مارون بغدادي يتوقف عند اللحظة التي تنجح فيها عملية الهرب فيختتم فيلمه بلقطة للثلاثة الهاربين وتنزل على الشاشة عبارات تفيد بأن ميشال سيعتقل على اي حال بعد شهور. كما نرى من خلال هذا التلخيص من الواضح اننا هنا في ازاء حكاية فرنسية حقيقية، بل وحكاية تكاد تكون بمعنى من المعاني حكاية عادية غير انها تحولت على يد مارون بغدادي الى شيء آخر تماماً… ففي المقام الاول هناك ذلك البعد السينمائي الخالص الذي اسبغه مارون بغدادي على فيلمه… حيث نلاحظ مدى التطور الذي اصاب لغة المخرج السينمائية منذ فيلمه "الفرنسي" الاول "الرجل المحجب" فنحن هنا لم نعد امام فيلم من ذلك النوع الثرثار الذي يغلب الرسالة الاخلاقية والفكرية على الشكل الفني، ويجعل اللفظة مجرد تفسير لفكرة معينة… بل صرنا امام لغة سينمائية تعتمد على البعد البصري والسمعي خاصة ولكن عن طريق المؤثرات لا عن طريق الحوار بشكل ندر ان عرفته السينما الفرنسية. فالكاميرا هنا في حركة متواصلة، وكأنها عين تشهد الاحداث بتوتر وقلق دائمين. منذ اول لقطة في الفيلم حيث تكتشف تييري فورتينو راكضاً بتوتر ينعكس على حركة الكاميرا حتى اللقطة الاخيرة حيث نراه راكضاً مرة اخرى، ولكن مع قدر اقل من التوتر، لا تهدأ كاميرا مارون بغدادي، بل تواصل حركتها الاستعراضية، ولا سيما في مشاهد السجن التي تذكرنا الى حد ما، بتقطيع مارتن سكورسيزي في "المعتوقين" او ببعض مشاهد "فول مينال جاكيت" لستانلي كوبريك مشاهد التمارين العسكرية في القسم الاول من فيلم كوربريك، والحال ان الاحالة الى هذا النوع المتقدم من السينما الانغلو ساكسونية، لا تأتي هنا ترفاً او تزويقاً، فمارون بغدادي يبدو اليوم مديناً لهؤلاء المعلمين، اكثر مما هو مدين لأي من معلمي السينما الفرنسية التي يعمل ضمن اطارها. وحسبنا للتيقن من هذا ان نتذكر تلك المؤثرات الصوتية واللقطات المكبرة، التي بها خلق لنا مناخ السجن خلال الجزء الأكبر من الفيلم: أحذية الجنود - الأقفال - الابواب التي تغلق وتفتح وتغلق الى ما لا نهاية له - والخطوات المتواصلة... ملامح من الشرق في هذا كله من الواضح ان مارون بغدادي قد عرف كيف يسخر احدث تقنيات الصوت والصورة، بشكل يجعل مثلاً، لقطة لباب يغلق وصوت اغلاقه يعم الصالة، وكأنه باب قبر أطبق على قلب انسان معذب وحيد، ومن الواضح ان موسيقى غابريال يارد المتوترة قد ساعدت كثيراً في خلق هذا الانطباع، ولم تأت على شكل زينة تصويرية كما هو حال الموسيقى في عدد كبير من الافلام. قوة التعبير السينمائي في فيلم مارون بغدادي الجديد، تكمن في توليفه المتميز بين عناصر اللغة السينمائية: الصورة والصوت والمؤثرات الصوتية والموسيقى، ولكن كذلك في المونتاج الذي تمكن في معظم لحظات الفيلم من ان يخلق ذلك التوتر... ونقول في معظم اللحظات وليس في كلها، لأن المشهد الأخير في الفيلم جاء - ويا لغرابة الأمر! - أضعف مشاهده، اذ حين تكون الطائرة المروحية في فضاء السجن، ويكون مطلوباً من تييري فورتينو أن يعتلي السطح لركوبها، يفقد المونتاج ديناميته ويصبح بليداً بشكل غير معقول، حتى ولو كان صوت الطائرة وحركة رجال الشرطة وتهليل بقية المساجين قد تمكنت جميعها من الابقاء على جو التوتر قائماً. مهما يكن، اذا كان مارون بغدادي خلق توتر ايقاع الفيلم وحركته باشتغاله على شتى عناصر التقنية السينمائية، فانه - من ناحية اخرى - من خلال اشتغاله على الممثلين، تمكن من خلق الوجه الآخر للميدالية: الطابع الانساني للمغامرة، نقول الطابع الانساني ونعني الطابع الروحي المنتمي الى الذهنية الشرقيةاللبنانية. وها هنا تكمن - في اعتقادنا - اضافة مارون بغدادي الى العمل... فالحال ان السينما الفرنسية نادراً ما عرفت كيف ترسم لنا ذلك الحنان الذي يغلف العلاقة بين الاشخاص، حنان غير مادي ولا ينتمي بأي حال الى ذهنية نهاية القرن العشرين: الحنان الذي يغلف علاقة بريجيت بأخيها ويلعب الدور هيبوليت جيرار دو، فلا نجد انفسنا أمام لص عادي، بل أمام شخصية تبدو آتية مباشرة من شخصيات "شياطين" دوستويفسكي؟ والحنان الذي يغلف علاقة بريجيت بطفليها فهي هنا أم يختلف نمطها كثيراً عن نمط الامهات الذي يهيمن على السينما الفرنسية خاصة علاقة بريجيت بزوجها: تلك النظرات المصممة في عينيها، ذلك الغرام الذي يُرسم عبر حركة أيد تعجز عن التواصل عبر زجاج غرفة الزيارة في السجن، ذلك الفرح الطاغي يوم العرس داخل السجن، لقاؤها الأول مع طفلها من تييري الذي يولد داخل السجن... ولئن كان اداء بياتريس دال الرائع وسحنتها الشرقية الخالصة ساعدا مارون بغدادي على الوصول بتعبيره عن كل ذلك، ذلك الحنان التعبير القوي الصادق، فان ما لا ينبغي نسيانه هنا هو ان مارون بغدادي لم ينظر الى شخصياته على انها شخصيات مجرمة... بل على انها - في كل ما فعلته - انما تعبر عن جيل الخيبة. فمن هم ميشال وبريجيت والأخ؟ مصير جيل الخيبة هم في الحقيقة من ابناء ذلك الجيل الذي وصل الى ذروة احلامه خلال سنوات الستين حين رسمت اجيال الشبيبة المنتفضة قصوراً من ورق، وسلطات مستقبلية جديدة سرعان ما تبدت وهما... وكان من "الطبيعي" ان تولد تلك الخيبة اشكالاً متعددة من رغبة الوقوف ضد المجتمع... وهذا الامر يبدو واضحاً من خلال شخصية الأخ، كما من خلال نظرة بريجيت الى ما تقترفه... إذن جيل خابت أحلامه، وبدأ يشعر أن الدولة ليست دولته وان عليه ان يقبض مصيره بيديه: هكذا يفعل ميشال بوجور حين يسطو على اموال الآخرين ولو أنه يعبر دائماً على عدم اراقة الدماء، وهكذا تفعل نادين بريجيت حين تقرر ان تنقذ زوجها... وهكذا يفعل الأخ حين يساعد أخته أو حين يقوم بسرقاته لحسابه الخاص. ترى أفليس أمامنا هنا تفسير لاحق لعملية الخطف التي يقوم بها المقاتلون في "خارج الحياة"؟ أفليس هذا هو مغزى اللقطة الأخيرة في فيلم مارون بغدادي السابق حين يبدو لنا وكأن المصور الفرنسي المخطوف قد بات، وهو يعيش حريته الباريسية، أقدر على فهم دوافع خاطفيه؟ في هذه النقطة بالذات يمكن الربط بين فيلمي مارون بغدادي "خارج الحياة" و"فتاة الهواء"، فالفيلمان معاً يكشفان لنا عن انبهار مارون بغدادي بنمط من البشر يخلقون بأنفسهم قوانين اخلاقية يسيرون على هديها، من دون ان يبالوا بما اذا كان ثمة ابرياء يدفعون الثمن... ففي الحالتين معاً ثمة محاولات لانقاذ سجين، تستخدم فيها وسائل تقف بالتعارض مع قانون الدول والعدالة الرسمية. وفي الحالتين لدينا سينمائي ينبهر بالاسلوب غير القانوني الذي يتبعه المنقذون... ولكن دائماً من دون ان يحول انبهاره الى درس اخلاقي او درس مضاد للأخلاق القائمة. المخرج في الحالتين يرسم لنا الحادثة، ويوضح لنا موقفه: انه مع الانسان الذي يعرف كيف يعيش حياته، بصرف النظر عن الموقف الذي تقفه القوانين المعبرة في نهاية الامر عن سلطة ما... وهذه السلطة يدخلها مارون بغدادي - على أي حال - في "فتاة الهواء" بشكل مبتكر حين يفاجئنا رجال الشرطة في القسم الأول من الفيلم يغزون - بالمعنى الحرفي للكلمة - بيت بريجيت آتين من كل النوافذ محطمين كل شيء مخربين كل ما تقع عليه ايديهم، في مشهد يليق بمارتن سكورسيزي... إذن، قد يكون الجانب التقني الغني في فيلم مارون بغدادي الأخير "فتاة الهواء" طاغياً على الفيلم، وقد يكون هو الذي يبقى في ذهن المتفرج في نهاية الأمر، ولكن ثمة خلقاً غير ذلك الجانب، جوانب أخرى عديدة مبثوثة في كل مكان، تكشف لنا لو تمعنا فيها: أولاً، عن أن مارون بغدادي لم يبارح، بعد، شرقه، حتى ولو كان طلب اليه أن يصنع فيلما فرنسياً بحتاً. ثانياً، عن ان هذا الفيلم كما صاغه السينمائي اللبناني ينتمي دون مواربة الى سينماه السابقة، فكراً ورؤية للعالم، دون أي ابهام أو التباس. وهذا الواقع يطمئننا في حد ذاته الى أن السينما العربية ليست، بعد، على وشك ان تخسر بعض أفضل أبناء جيلها الجديد. بياتريس دال في سطور قبل فترة، أجرت محطة اذاعية فرنسية رائجة، استفتاء بين مستمعيها فحواه السؤال حول الممثلة الأكثر اثارة في تاريخ السينما، فكانت المفاجأة ان أكثر المشاركين قد وضعوا اسم بياتريس دال في المقدمة الى جانب بريجيت باردو ومارلين مونرو، وهي التي لم تكن ظهرت حتى ذلك اليوم الا في خمسة أفلام... وهي التي كان رجال الشرطة سيقبضون عليها بعد شهور بتهمة السرقة من المتاجر! على أي حال، حين ظهرت بياتريس دال على الشاشة للمرة الأولى في العام 1986 في فيلم "2،37 درجة عند الصباح" من اخراج جان - جاك بينيكس، كانت قنبلة حقيقية، لأن المتفرجين وجدوا أمامهم امرأة مثيرة بالمعنى الفعلي للكلمة: كل شيء فيها مثير، شكلها ووجهها ونظرات عينيها وذلك الذكاء المطل من تفرسها فيمن يحدثها، اضافة الى اسلوبها الغريب واللامبالي في نطق الكلمات. ولعل أبرز ما في بياتريس دال هو سماتها الشرقية فهي بشعرها الأسود الفاحم وفمها المكتنز المندفع الى الأمام وعينيها البراقتين تقف موقف النقيض من الشكل الاوروبي النموذجي، وهذا ما جعل لها سحرها وغرابتها ما مكنها من ان تحتل موقعاً في الصفوف الأولى بين نجمات اليوم الفرنسيات، وجعل رصيدها من الأفلام يرتفع خلال ستة اعوام فقط الى ثمانية أفلام أتاحت لها العمل مع أبرز المخرجين الفرنسيين وغير الفرنسيين من بينيكس المذكور آنفاً والذي اعطاها فرصتها الأولى، الى مارون بغدادي الذي اعطاها دور نادين/بريجيت في "فتاة الهواء" مروراً بالايطالي ماركو بللوكيو والأميركي جيم جارموش والفرنسيين جاك ديري وجاك دوايون وكلود ديلوش. ولدت بياتريس دال في مدينة برست أواخر العام 1964... وهي تقول انها قبل عملها في فيلم "2،37 درجة عند الصباح" لم تكن مارست أي عمل على الاطلاق... لكنها منذ ذلك الحين لم تتوقف لحظة عن العمل. واليوم، اذ تتأمل بياتريس دال ما حدث لها خلال السنوات الاخيرة التي حولتها من فتاة عادية مجهولة الى نجمة سينمائية كبيرة، تقول: "على الشاشة لا أحب نفسي أبداً... لا أحب لا صوتي ولا شكلي ولا الشكل الذي أؤدي به أدواري". وتتمالك بياتريس دال نفسها وتقول: "على أي حال، كنت أحب لو أنني عشت في سنوات الخمسين ومثلت مع ايليا كازان في أفلام كتبها تنيسي ويليامز... أفلام تكشف روعة البشر..."