حين سارع كل من رئيس وزراء باكستان نواز شريف وزعيمة المعارضة بينازير بوتو الى اعلان الانتصار في المواجهة العنيفة، التي شهدتها كبرى المدن الباكستانية، بين قوات الامن من جهة وانصار المعارضة من جهة ثانية قبل نحو 10 ايام وشلت البلاد لمدة ست وثلاثين ساعة، قال رئيس غرف المحامين الباكستانيين في بريطانيا منصور مالك، وهو من المراقبين السياسيين للوضع الباكستاني المعروفين بالحياد، ان قراءة سريعة لتاريخ الحكومات في باكستان ترجح هزيمة الطرفين، على الاقل في المدى القريب. واضاف مالك في حديث مع "الوسط" ان المنتصر الاكبر هو - كالعادة - الجيش، وان الخاسر الاكبر هو "الديموقراطية الهشة في البلاد". ويعتقد مالك انه في حال نجاح المعارضة بتنفيذ خططها لتنظيم "مسيرات طويلة" ونقلها من مدينة الى اخرى سيضطر الرئيس الباكستاني غلام اسحق خان الى دعوة جنرلات الجيش لتشكيل حكومة عسكرية، ثم اللجوء الى فرض الاحكام العرفية في حالة تحول المواجهة الى اعمال عنف تهدد استقرار البلاد، وهو التوجه الذي بدأ يروج له رئيس اركان الجيش الجنرال عاصف نواز، منذ اكثر من شهرين حين بدأت رئيسة الوزراء السابقة بوتو اتصالات سرية بالرئيس غلام اسحق خان ومطالبته باقالة حكومة نواز شريف وتشكيل حكومة ائتلاف وطني انتقالية تكون مهمتها حل البرلمان والاشراف على انتخابات عامة جديدة. اضافة الى وقف محاكمات عدد من وزرائها ومساعديها الذين وجهت اليهم تهم بالفساد الاداري ثم الافراج عن الذين صدرت بحقهم احكام مختلفة. وبدأت بوتو اتصالاتها هذه بعد ان رتبت اوضاع حزب الشعب الباكستاني الذي تتزعمه، خصوصاً بعد ان اعادت غلام مصطفى جاتوي الى صفوف الحزب. وهو الزعيم المتنفذ في ولاية السند، والذي تولى رئاسة الوزارة لفترة انتقالية قصيرة بعد اقالة بوتو في آب اغسطس 1990 بتهمة الفساد وتبذير الاموال العامة. لكن الرئيس غلام اسحق خان والعسكريين الكبار، الذين لاحظوا مدى الضعف الذي اصاب الحزب الاسلامي الذي يتزعمه نواز شريف، وبالتالي تناقص التأييد لحكومته، اعتبروا ان تلبية مطالب بوتو هذه هي بمثابة انقلاب ابيض قد يجعل من بوتو الزعيمة الوحيدة في باكستان. وفي هذا المجال يقول منصور مالك ان المعارضة لو شاءت المحافظة على الديموقراطية وتفويت الفرصة على العسكريين، لكان يتعين عليها الامتناع عن نقل المواجهة الى الشارع وتحمّل الحكومة الحالية حتى عام 1995 موعد نهاية ولاية البرلمان. وبالتالي العودة الى السلطة وفق القواعد الديموقراطية، خصوصاً ان حكومة نواز شريف تواجه مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة، أقلها ارتفاع نسبة التضخم المالي والفساد الاداري المستشري، وعدم الاستقرار العام في ولايتي السند وبلوشستان القبليتين والمحاذيتين للحدود الافغانية، حيث كل واحد من اصل ثلاثة من السكان يقتني سلاحاً ويحمله بصورة علنية. اضافة الى التوتر الذي يسود علاقة نواز شريف بالجنرالات منذ قيام الجيش بحملة عسكرية ضد حركة مهاجر المتحالفة مع الحزب الاسلامي. لكن بنازير بوتو وزعماء المعارضة الآخرين قرروا الاسراع بالمواجهة ونقلها الى الشارع مخافة ان يتمكن نواز شريف من ترتيب اوضاع حزبه وحكومته خلال الفترة التي تفصله عن الانتخابات المقبلة. ولعل ابرز مظاهر الضعف الذي تعاني منه حكومة نواز شريف هو حجم الاجراءات الامنية التي اتخذت عشية الاعلان عن "المسيرة الطويلة" من روالبندي الى مقر البرلمان في اسلام آباد، اي مسافة 18 كيلومتراً. فقد عمدت قوات الامن الى اعتقال الآلاف من انصار المعارضة، وضربت طوقاً من الاسلاك الشائكة حول منزل بوتو، واحتلت قوات الجيش الطريق بين المدينتين، ووضعت حراسات مشددة على مباني السفارات الاجنبية والمرافق الحيوية في البلاد. وفي معرض تفسير تظاهرة القوة هذه قال ديبلوماسيون أجانب في العاصمة الباكستانية ان الحكومة علمت بوجود خطط سرية وضعتها المعارضة لمحاصرة البرلمان والمباني الحكومية واحتلال بعض المرافق العامة. وقبل موعد انطلاق المسيرة بساعات حاولت الشرطة منع بوتو من مغادرة منزلها، واطلقت على سيارتها نحو عشرين قنبلة مسيلة للدموع وحطمت زجاجها بالهراوات قبل اعتقالها وتسليمها قراراً بابعادها عن العاصمة لمدة ثلاثين يوماً. واذا كانت هذه الممارسات من قبل الشرطة ازاء النواب والوزراء مألوفة في باكستان، وفي عهود الحكومات المختلفة، بما فيها حكومة بوتو نفسها، فان منصور مالك يقول انها سابقة لا مثيل لها ازاء رئيسة وزراء سابقة، مما أثار سخطاً شديداً في صفوف انصارها وفي اوساط الدفاع عن حقوق الانسان والديموقراطية. وفي النهاية تمكنت قوات الامن من تفريق المسيرة بعد سقوط ثلاثة قتلى واصابة العشرات بجروح، واعتقال الآلاف، من بينهم معظم زعماء المعارضة، ونواب ووزراء سابقون، ورئيس الوزراء السابق غلام مصطفى جاتوي، و11 عضواً من لجنة حقوق الانسان، وسلمان تاسيد مساعد بوتو، الذي قالت مصادر حزب الشعب الباكستاني انه تم تعليقه من قدميه ليلة كاملة في احد مراكز الشرطة للتحقيق معه. وبينما يعلن نواز شريف انه تمكن من خلال هذه الاجراءات من حماية البلاد من الانزلاق نحو الفوضى الكاملة، تقول رئيسة الوزراء السابقة انها نجحت في كشف حقيقة السلطة البوليسية التي يقودها شريف، وحقيقة انه يحكم بالقبضة الحديدية وليس بالورقة الانتخابية. ومع وصول بوتو الى منفاها في كراتشي واعلانها قرارها بنقل المسيرة الى مدينة بيشاور، ورد حكومة الولاية باصدار قرار يمنعها من دخول الولاية بأكملها، وصلت المواجهة، بنظر مراقبين باكستانيين تحدثوا الى "الوسط" في لندن، الى نقطة اللاعودة. فلو توقفت المعارضة عن الدعوة الى المسيرات الطويلة ستخرج حكومة نواز شريف اكثر قوة. واذا استمرت المواجهة ستسقط حكومة شريف، ولكن في ايدي العسكريين وليس المعارضة. ولا احد يدري متى تعود الديموقراطية الى البلاد.