تابعت منذ أيام الشباب في العام 1948 وإلى اليوم انتخابات الرئاسة الاميركية، حيث لكل حزب مؤتمره وبرنامجه الانتخابي والأساليب السياسية التي تميز النمط السياسي الأميركي وتجعله مختلفاً عما تعودناه من خطابات ومناظرات في الانتخابات البريطانية التي لا تدوم طويلاً بالمقارنة مع المسرحيات السياسية الاميركية، وما فيها من عودة الى أفراد الشعب في طول القارة الاميركية وعرضها، سواء عن طريق القطار في الماضي، حين كانت السكك الحديد هي وسيلة الإتصال الأرضي الرئيسية، او عن طريق الطائرات اليوم. وأذكر نائب الرئيس نيكسون يشرح للشعب الأميركي موقفه ومعه زوجته وأولاده وكلبه. ثم دخلت ثورة الاتصالات بالأقمار الصناعية والطيران فقربت البعيد وجعلت الشعب ومرشحيه في التصاق، فيكاد الناخب يدخل الى عقل ومنزل وفكر وتاريخ كل مرشح، وأصبحت حياة المرشحين الخاصة ملكاً لوسائل الاعلام التي تمحص كل شاردة وواردة في شخصية المرشحين. وكان قرار تقسيم فلسطين وانتقال مركز الحركة الصهيونية الى اميركا منذ عام 1942 هو السبب الرئيسي في هذا الاهتمام. وكان المسرح المفتوح لمؤتمر الاحزاب الذي يضع البرنامج السياسي المؤيد لاسرائيل يشد اهتمامنا، بعد ان كان العرب تعودوا على الاسلوب السري للديبلوماسية الانكليزية والفرنسية والتي أباحت أسرارها الثورة البولشيفية حين أذاعت اتفاقية سايكس - بيكو. ولعل الديبلوماسية السرية هذه رسخت في الفكر العربي اللجوء الى نظرية المؤامرة لتفسير الظواهر أكثر من التحليل القائم على ميزان القوى والمصالح. وسادت نظرية عربية في تقويم الرؤساء، تقوم على تصنيف يقسمهم بين العمالة أو الوطنية تختفي فيه عناصر المصلحة وحسابات المكاسب والخسائر. وعبر السنوات لم أرَ اهتماماً عربياً على جميع المستويات بالانتخابات الرئاسية الاميركية مثلما أراه اليوم. هذا الاهتمام الكبير بتفاصيل حملة الرئاسة يشغل بال القادة العرب كما يشغل بال الصفوة العربية، بل ان الموضوع أصبح يحظى باهتمام رجل الشارع العربي. وأرجو ألا يكون الاهتمام فاق اهتمامنا بأحوال السياسة العربية نفسها، والمساحة التي تعطيها وسائل الاعلام العربية لتلك الحملة ملفتة للنظر. وعلى رغم أهمية دور الرئيس الاميركي، وعلى رغم أهمية علاقات القمة بين الرؤساء عامة وأهمية تلك اللقاءات بين الرؤساء في العلاقات العربية، فإن العلاقات الدولية لا تقوم على علاقات القمم. وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي مرحلة صعود واشنطن السريع لمرتبة القيادة الأولى لبست أميركا قناعين: الأول، كان قناع الدعوة للقضاء على الاستعمار القديم وتسهيل تخلص الدول العربية من بقايا هذا الاستعمار استكمالاً لنظام عالمي جديد تلعب فيه الأممالمتحدة وميثاقها دور الإطار الجديد المهيمن على العلاقات الدولية، حيث خصص لمجلس الأمن دور الحفاظ على السلام والأمن الدوليين. أما القناع الثاني، فكان صحوة الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس ترومان التي تزعمت وقادت الجمعية العامة في اصدار قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وهو دور اعتبره العرب ظالماً ومتحيزاً ضدهم وضد شعب فلسطين فرفضوه. وتوالت الأحداث وإذا بالولاياتالمتحدة ترى في خلق ودعم اسرائيل والمحافظة على قوتها ورخاء شعبها تعبيراً عن دعم المجتمع الدولي لليهود بعد "المحرقة". وأصبح دعم اسرائيل جزءاً اساسياً من التراث الاميركي والغربي، حتى وإن كان ذلك الحل يتم على حساب شعب بريء من تهمة اللاسامية وهو الشعب الفلسطيني. الميزان الخلقي والمعنوي للولايات المتحدة وللغرب عامة أيد وقبل التضحية بآلام الشعب الفلسطيني محل مشكلة اليهود القومية. وأدت قضية التقسيم وانعكاسات رفض الدول العربية لها الى تصاعد النزاع وعدم التوصل الى حل حاسم له. وأصبحت هذه القضية هي المحك وهي المعيار في قياس العلاقات العربية - الاميركية. ومن المؤلم انه لم تكن هناك علاقات عداء أو منافسة بين مصالح الدولة الأميركية الصاعدة ومصالح الدول والشعوب العربية، ما عدا هذا الخلاف المعقد الذي نشأ وتبلور حول قضية فلسطين وتداعياتها الاقليمية والقومية. الجمهوري والديموقراطي اختلاف الرؤية هذا ولّد مزيداً من اختلاف المصالح ووسع أرضية الصراع، خصوصاً انه على رغم محاولاتها لإيجاد "حل وسط" للنزاع منذ 1949 وإلى مؤتمر مدريد 1991 فان اميركا فشلت في الوصول الى ذلك الحل، ولكنها أفرزت سياسة اميركية مستمرة وممتدة تعمل على حماية اسرائيل من أي اعتداء عربي عليها بضمان ان تتوافر للكفة الاسرائيلية الرجحان النوعي والعددي في ميزان القوى يحقق لها من القوة ما يردع او يهزم أي ائتلاف عربي مضاد لها. وتحول موقف الدفاع عن اسرائيل الى جعل اسرائيل تتمتع بقوة ذاتية للدفاع من دون الاعتماد على واشنطن الا بالدعم الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري الفريد، ما شجع اسرائيل على اتباع أسلوب الهيمنة. ورفض العرب الوجه الاميركي المتحيز ضدهم لصالح إسرائيل. ونظراً الى أهمية الدور الرئاسي في تقرير سياسة أميركا تجاه اسرائيل والعرب فقد نشأ تيار من الفكر السياسي العربي يحكم على المسلك الأميركي من خلال هذا المنظور وحده. وتولدت عن هذه النظرة الآحادية صورة مسطحة لا أبعاد لها يرى العرب من خلالها السلوك السياسي الأميركي. هذا المنظور وحده لم يكن موضوعياً - على أهميته - في فهم التطورات والتغيرات الأميركية تجاه المنطقة فقد ظل هذا المنظور يخفي الواقع أكثر من أن يظهره ويوضحه. ومن المنطلق نفسه تبلور لدى الجانب الأميركي منظور مسطح لا عمق فيه لطبيعة التغييرات العربية، وأصبح كل من الجانبين يسيء فهم الجانب الآخر نتيجة لعوامل كثيرة تبلورت من خلال منظور قاصر لا يلم بكل الأبعاد والزوايا. وترسخ في الفكر العربي عدد من النظريات يستعين بها العرب لفهم ديناميكية السياسة الأميركية، واستسهل العرب هذه النظريات المبسطة بدلاً من الخوض المدقق والمحلل لطبيعة وعلاقات التغيير في المجتمع الأميركي. ومن ضمن هذه النظريات والاجتهادات ما يأتي: 1 - إن الحزب الجمهوري أكثر انصافاً للعرب لأنه يعطي الأولوية للمصالح القومية الأميركية فوق أي مصالح لأي جماعة دينية أو أمنية يضمها الجسد الأميركي. 2 - إن الحزب الديموقراطي، نظراً الى انه ائتلاف تلعب فيه الاقليات دوراً رئيسياً، فإن أنصار اسرائيل من اليهود ومن يواليهم يسيطرون في الرئاسات الديموقراطية على توجيه السياسة لصالح اسرائيل. 3 - إن الرئيس الأميركي الذي ينجح في الحصول على فترة رئاسية ثانية يستطيع أن يكون أكثر موضوعية في اتخاذ مواقف أكثر عدلاً من الرؤساء في فترة رئاستهم الأولى لأنه يكون بمعزل عن السعي للحصول على المناصرة من كتلة الضغط الموالية لاسرائيل. 4 - إن الشعب الأميركي أصبح في الواقع ضحية للتضليل في فهم مشكلة الشرق الأوسط نظراً الى سيطرة وسائل الإعلام وهي متحيزة لاسرائيل ويسيطر عليها اليهود. وأنه اذا انزاح هذا التضليل او ظهرت رئاسة اميركية غير واقعة تحت هذا النفوذ، فإنها ستكتشف ان مصالح الشعب الاميركي الحقيقية هي مع الدول والشعوب العربية وأن اسرائيل تسبب الصراع والتجزئة في محاولة لتأمين الدعم الأميركي لها. ودار الفكر العربي طويلاً حول هذه المحاور، وتابع بقلق كل تصريح ومقال وبرنامج تلفزيوني سياسي يؤيد اسرائيل، وسيطر هذا الفهم على ما نكتبه فلم نكترث كثيراً بدراسة السياق والبنيان والتغيرات العميقة في مجتمع هو بالنسبة الينا يكاد يكون مجتمعاً مستقبلياً، فرسمنا لأنفسنا عالماً أميركياً غير واقعي ورسمت أميركا عنا عالماً عربياً مختلفاً. ووصل هذا الانقسام أحياناً الى مرحلة من مراحل الانفصام النفسي والعقلي... ولكن اختيار الواقع ومضاهاة النظرية بالحقيقة العملية طرحا تساؤلات كثيرة لم تستطع الدعايات والتحيزات اسكاتها. فتنة صدام حسين وقعت فتنة استيلاء صدام حسين على الكويت واكتشف العرب ان العداء له اسباب مختلفة ومتنوعة، منذ قصة قابيل وهابيل. ولم يكن لدى المعتدى عليهم من قوة لردع الاعتداء وتحرير الأرض. وانقسم العرب لكنهم تبينوا ان جهدهم لا يكفي للتحرير، وقام الرئيس بوش بقيادة التحالف الدولي برخصة من مجلس الأمن وأرسل حوالي نصف مليون اميركي لتحرير الكويت ثم العودة السريعة الى أميركا. وأطلت اميركا على العرب بقناع التحرير والدعم وطرحت شعار "النظام العالمي الجديد" الذي لم تتم ولادته بعد ولم تتضح خطوطه وأبعاده، لكن اصبحت اميركا بالتدريج ومنذ الحرب العراقية - الايرانية وامتداداً لعاصفة الصحراء، الثقل الرئيسي لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة. ثم طرح بوش ووزير خارجيته القدير جيمس بيكر اطاراً للمفاوضات الثنائية والمفاوضات المتعددة الاطراف لحل النزاع العربي - الاسرائيلي من كل جوانبه مع استشراف امكان تحويل منطقة الشرق الأوسط، من تركيا وإيران مروراً بالعرب واسرائيل والدول الاسلامية في آسيا الوسطى، الى منطقة تعايش سلمي وتعاون انمائي. هذا المنطق والشعار والخطوات التي اتخذتها ادارة بوش جعلت الانتخابات الاميركية جزءاً جوهرياً من الاهتمام العربي القطري والاقليمي. لهذا كله اكتسبت الانتخابات الاميركية رؤية عربية جديدة جعلتها تبدو وكأنها "ظاهرة عربية". الحقيقة والوهم في الفهم العربي لسياسة الولاياتالمتحدة هو غوص في محيط عميق مملوء بالتناقض والتقابل والتفاعل. ان طبيعة العلاقات الدولية تقوم على فهم ديناميكي للمتغيرات والمتفاعلات وحالة الاستثناء وحالات الثبات. ولذلك فإنه من الخطأ الاعتماد على بعض النظريات التي لا تكشف النقاب إلا عن تعميمات مضللة حتى وإن اصابت احياناً، فالسياسة هي علم الممكن وهي كذلك علم تطوير واستثمار الممكن، وهذا المعيار العملي هو الحكم في فهم التطورات وتقرير الاختيارات. فالرئيس ايزنهاور وقف ضد فرنسا وإنكلترا لأنهما حاولتا في السر عن طريق المؤامرة تغيير الوضع الراهن في الشرق الأوسط من دون الحصول على اذن أو موافقة اميركية، ولذلك اضطر هذا البطل الأميركي لكي يحدد بصراحة مؤلمة ان واشنطن هي القابضة على موازين القوى، وعلى رغم ان الرئيس السابق ريغان حقق رئاستين للحزب الجمهوري فإنه كان من اشد الموالين لاسرائيل. وعلى رغم ان الرئيس كارتر جاء من المنطقة الجنوبية التي يطلق عليها اسم "حزام الانجيل" والتي تسيطر عليها اصولية مسيحية موالية لاسرائيل فإنه كان عادلاً وعاقلاً في دعم حركة السلام التي رسم طريقها الرئيس السادات فأتاح فرصة تاريخية لتحرك اميركي ايجابي على طريق السعي الى سلام شامل. ان المفهوم الاميركي لاسرائيل هو جزء لا ينفصل عن المنظور الأميركي لدعم قيام دولة اسرائيل وإيجاد حل قومي لمن يشاء من اليهود، هذا المفهوم قد يترجم عبر سياسات مختلفة، ولكنه يمثل جزءاً ثابتاً من التضاريس السياسية الخارجية والداخلية لأميركا، وعلى رغم الاختلاف في نبرة التأييد ودرجة الانفعال ومقدار الدعم فإنه يمثل التزاماً اميركياً معلناً ومكرراً من كل الرؤساء ومن الحزبين منذ عام 1948 وإلى اليوم. وقد أكد هذا الالتزام ترومان وإيزنهاور ونيكسون وكينيدي وجونسون وكارتر وريغان وبوش، وجميع المرشحين والمنتخبين في مجلس النواب والشيوخ. علينا أن نفهم أبعاد وتفاعل هذا العامل الأميركي وعلينا ان نتعلم كيف نتعامل معه ونتفاعل بما يعود علينا بالخير ويلطف من غلواء التحيز ويدفع بهذا العامل الفعّال ليكون أداة لتحريك عملية السلام. ماذا يقول كلينتون؟ اكتسب الرئيس بوش خبرة في شؤون الشرق الأوسط من خلال خدمته السابقة في الأممالمتحدة والمخابرات المركزية الاميركية، لكن بوش لم يتحرك في عمليتين: درع الصحراء وعاصفة الصحراء لمجرد خبرته السابقة على رغم استفادته منها في الأسلوب الذي اتبعه ومارسه. وتكمن سياسة بوش في ان الولاياتالمتحدة لن تسمح بأن تقوم أية دولة اقليمية بفرض الهيمنة على منطقة الخليج لأن واشنطن تعتقد ان مصلحة العالم تتطلب منها التدخل للمحافظة على الامن والسلام في المنطقة. الدوافع نفسها القائمة على تقدير بوش للصالح الاميركي هي التي منعته من التدخل العسكري المباشر في البوسنة لانقاذ مسلميها من الموت والتشتت. ان المصلحة القومية، كما يقررها ويفهمها واضعو السياسة وعلى رأسهم الرئيس الأميركي، هي التي تقرر الأهداف ونوع الأساليب التي تستخدم في التنفيذ مع مقارنة لعناصر التكلفة البشرية والاقتصادية والسياسية. نتيجة لحرب الخليج ولعملية السلام تكونت علاقات وثيقة ومباشرة بين الرئيس بوش والزعماء العرب، هذه العلاقة لا توجد حالياً مع الرئيس الجديد المنتخب كلينتون، لكن على العرب ان يستفيدوا من خبرة هذه العلاقة في تطوير علاقات وثيقة مع الرئيس الجديد لاكتشاف مساحة المصلحة المتبادلة وتوسيع رقعتها. وهذا يتطلب فهماً لسياسة الحزب الديموقراطي في ثوبه الحالي الجديد والتوجهات الاميركية المستجدة التي افرزتها التغييرات السياسية والاجتماعية التي تشكل القوى المؤثرة حالياً في تقرير وبلورة السياسة الاميركية. ولا بد هنا من التوقف عند سجل الرئيس كلينتون والحزب الديموقراطي خلال العام 1992: صرح كلينتون في خطاب أمام جمعية بناي جرث اليهودية في 6 أيلول سبتمبر الماضي بأن اميركا ترتبط بإسرائيل برابطة روحية وان اسرائيل واحة للحرية في الشرق الأوسط، وأبرز النقاط الايجابية الجديدة للحكومة الاسرائيلية برئاسة رابين، مطالباً العرب بالاستجابة لهذا التغيير كما طالب بإلغاء سياسة المقاطعة العربية وبالعمل لمنع انتشار الاسلحة النووية والقتالية في الشرق الأوسط. أكد ان عملية السلام تقوم على أصولها التي تبلورت في اتفاقيات كامب ديفيد، وفي ذلك اشارة الى استمرارية تلك السياسة التي بدأت في عهد الحزب الديموقراطي برئاسة كلينتون. أبرز كلينتون وكل قيادات الحزب الديموقراطي انهم لن يفرضوا حلاً على اسرائيل وان الحل يجب ان يأتي نتيجة مفاوضة لا تستخدم فيها الضغوط لفرض تنازلات على طرف واحد. وأشار الى "القدس" عاصمة لإسرائيل التي لا يجب ان تقسم وانه يجب ان تبقى مفتوحة لجميع الأديان، وأكد أهمية مساعدة إسرائيل على استيعاب المهاجرين الروس. كرر اهمية الحفاظ لاسرائيل على التفوق النوعي في الامكانات العسكرية واستخدم مصطلح "هامش التفوق النوعي". ويلاحظ ان بوش استخدم مثل تلك الألفاظ، والفارق بين الموقفين ان خطاب الحزب الجمهوري لم يقر بأي تغيير في الموقف بالنسبة الى القدس، على عكس برنامج الحزب الديموقراطي، كما ان خطابات كلينتون وبرنامجه لم تجد اشارات متعاطفة مع العرب المعتدلين، في حين قام بوش بالاشادة بذلك. أما نائب الرئيس الجديد البرت غور فكان أكثر مغالاة في تأييده لإسرائيل. وللتاريخ والحقيقة فإن موقف بوش وكلينتون، وموقف حزبيهما بالتالي، لم يصل الى مستوى الموقف المتوازن الذي اعلنه برنامج الحزب الجمهوري عام 1960 والذي نادى باحترام استقلال ومكانة كل من الدول العربية وإسرائيل. في ذلك الزمان الجيد عام 1960 كان ايزنهاور في منصب القيادة وكان العالم العربي أكثر ارتباطاً وتماسكاً وكان الموقف الأميركي أكثر تفهماً للصالح العربي. ولا يجب ان يغيب عن البال لحظة ان الموقف العربي - العربي اذا تغلب على مواضيع التفرقة والانقسام الحكومي والشعبي وإذا تعامل مع المتغيرات الدولية من منطلق التفاعل والتفاهم والتفهم سيكون أكثر قدرة على الحصول على تفهم أكثر من الرئيس كلينتون. العرب والرئيس الجديد ليس هناك شيء ثابت في العلاقات الدولية حتى الثوابت ستطرح في قوالب جديدة. وان ميزان القوى والمصالح والقدرة على الاستفادة من الفرص المتاحة والمعرفة والدراسة بفنون التعامل الدولي واختيار البدائل المفيدة وتنمية علاقات المصلحة وشبكة التعارف هي المدخل الفعّال للتعامل مع المتغيرات. اما الرئيس كلينتون الذي تحول من يسار التيار الديموقراطي أيام شبابه الى الوسط المحافظ لهذا التيار يواجه تحدياً شخصياً وتحدياً اميركياً في آن واحد، التحدي الشخصي يتمثل في ان كل رئيس جديد يولد من جديد في هذا المركز، بغض النظر عن خلفيته السياسية التي قد تؤثر عليه. وكلينتون الشاب يختلف عن كلينتون حاكم ولاية اركنسو وسيختلف عن كلينتون الرئيس، هذا التغير في حياته يجعله يتردد في اتخاذ القرار في الشؤون التي لا يعرفها جيداً، مثل السياسة العالمية، وسيجعله يعتمد - في أول الأمر على الأقل - على سياسة الاتفاق العام، وهي ظاهرة مستقرة في سياسة اميركا نحو العالم والشرق الأوسط بالتحديد. أما التحدي الاميركي فإن كلينتون رئيس أميركا ولد بعد الحرب العالمية الثانية وتفادى الاشتراك في حرب فيتنام التي عارضها وهو أول رئيس ينتخب بعد نهاية الحرب الباردة، ان اميركا تبحث عن دور جديد في عالم جديد تريد ان تحتفظ لنفسها بالاسبقية التكنولوجية والاقتصادية بعد ان فشلت في علاج الكساد والبطالة، فهي القطب الأول الدولي ولكنها الدولة العظمى التي تبحث عن دور جديد في عالم متغير جديد. إن كلينتون الرئيس الجديد يأتي الى البيت الأبيض في موجة تغيير عميق في قيم واهتمامات الشعب الأميركي الذي يريد التقدم المادي والتقدم في تحقيق مجالات أوسع لحقوق الإنسان ونشر الديموقراطية والتعاون الدولي في ظل السلام. أمام هذا التحدي المعقد الذي سيولد في خلال الفترة القصيرة المقبلة الخطوط الرئيسية للرد على هذا التحدي ونسج السياسات الملائمة لهذه الاستجابة يواجه العرب كمجتمع وكدول تتحدى الاستجابة عن المشاركة في ايجاد الحلول لهذه التساؤلات، وبمقدار جهدنا وإبداعنا في الاحتفاظ بالبلورة في بناء السلام وبناء مجتمعاتنا سنتمكن من جعل كلينتون الرئيس صديقاً متعاوناً ومتفهماً. سياسة كلينتون ستقوم أساساً على ايجاد حلول للمشاكل الاميركية الداخلية وهو يؤمن ان حيوية الاقتصاد الاميركي هي مفتاح للاستقرار والسلام الدوليين. وعلى عكس بوش لن يتحمس كلينتون للقيام بأعمال عسكرية ولكنه سيستمر في اتباع السياسة الحالية بالنسبة الى ضمان الامن والسلام في المنطقة ولكنه سيحاول البحث عن طريقة لتطبيع العلاقات مع ايران في اطار استقرار منطقة الخليج اذا كان ذلك ممكناً. أما عملية السلام لحل النزاع العربي - الاسرائيلي فستوضع على موقد بطيء هادئ حتى تتمكن الأطراف من الوصول الى حلول جوهرية من دون ضغط أميركي أو على الأقل بضغط متوازن على الطرفين. وإذا بدت امكان حلول مهمة فسيولي الرئيس اهتماماً بها، اما في غير ذلك فسيركن مهمة عملية السلام اما الى مفوض خاص او لوزارة الخارجية. إن ادارة كلينتون ستتابع ما بدأ في عهد ريغان وبوش ولكن بنشاط اكثر للعمل على منع انتشار اسلحة الدمار الشامل من دون الضغط على اسرائيل او وضعها في موقف دفاعي، وذلك في غيبة اتفاق عام لموازين التسلح والأمن. الحديث عن حقوق الانسان ونشر الديموقراطية سيتزايد وتشتد لهجته، ولكن سيبقى محصوراً في اطار الصالح الاميركي السياسي والاستراتيجي، وستتصاعد احداث المحافظة على البيئة ولكنها كسياسة ستبقى مقيدة بالامكانات الاقتصادية الاميركية. إن جيلاً جديداً وصل الى الحكم في اميركا وله مشاكله وأولوياته، وهناك رئيس جديد نجح والجميع يطرح الاسئلة ولا تزال الردود غائبة. وحين تتبلور ستكون نتيجة لحوار اميركي مع العالم. والسؤال الملح هو: أين الصوت العربي في هذا الحوار وكيف يتبلور وكيف نتحاور مع العالم الجديد والرئيس الأميركي الجديد بيل كلينتون؟ * سفير مصري سابق وخبير في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية.