ريمون جبارة الذي نالت مسرحيته "صانع الاحلام"، من سنوات، جائزة مهرجان قرطاج لأفضل مسرحية عربية، يعود الى المسرح اللبناني بعد غياب ليقدم "من قطف زهرة الخريف"، من تأليفه واخراجه. المسرحية هي الابرز في افتتاح الموسم الثقافي الحالي في بيروت، وتتميز، الى فنيتها، بأنها تروي سيرة مؤلفها ومخرجها الذي أصيب بالشلل. "الوسط" تقدم في ما يلي رؤية نقدية ل "من قطف زهرة الخريف": مسرحية "من قطف زهرة الخريف"، كتابة واخراج ريمون جبارة، تعرض مفتتحة مسرح بيروت، هي حكاية بكل ما تحمل الحكاية من افشاء وبوح وقرب، وحميمية، وتلوين. حكاية كاتبها ومخرجها، ريمون جبارة مع مأساته الخاصة: اصابته بالفالج النصفي، وما عكست هذه المأساة من يأس، وأسى، ومرارة، وغضب، وتمرد على "الشروط النهائية" اللازبة، وتفجر في كل اتجاه: الداخل والخارج، الوضع الخاص، والوضع العام. كل ذلك ينسحب عميقاً من الحكاية الشخصية الدرامية التي تصل احياناً كثيرة الى الدمع الميلودرامي، والى الصرخة المتوترة. لذا فهي كتابة الجرح الطازج، الجرح الذي لا يزال ينزف. إطار الحكاية الخاصة المسرحي: فنانان احدهما "مفلوج" والثاني موسيقي فاشل. تربط بينهما علاقة قرب في باريس. يسكنان شقة فقيرة في العاصمة الفرنسية، ويشكوان العوز المادي، وكذلك الحنان، والعزلة. الاول، اي الفنان المفلوج يمثل ريمون جبارة، ويلعب الدور كميل سلامة يحتاج الى زميله الفاشل الذي لم يؤلف قطعة أو اغنية واحدة ومع هذا يعيش في وهم الموهبة والنجاح، كي يساعده على تصريف شؤونه، وحتى إعالته، وكذلك الاصغاء اليه، لأن المريض يحتاج دائماً الى من يتحمله والى من يصغي اليه. اذاً، جزء من العلاقة مرتبط بالحاجة او بالضرورة. والفنان الفاشل يحتاج الى من "يصفق" له، و"يعترف" بعبقريته المفقودة، لقاء اهتمامه به. من خلال هذه العلاقة "المركبة" تتحرك الشخصيتان، في هواجسهما، وأوهامهما، وكسورهما. وعندما نقول ان هاتين الشخصيتين تتحركان في اوهامهما، فلكي نركز على عنصر "التوهم" الذي يَسِمُ تكونهما، وتالياً علاقتهما، وينسحب على الشخصية الثالثة وهي المرأة التي تحب الفنان المفلوج على رغم وضعه، في علاقة ملتبسة بين الشفقة، والحب، والحنان، وكأنها، "شخصية" ادرجت في الواقع ادراجاً، وهي، من صنع "الهاجس"، والتوهم من صنع يأس المريض. وكأنها "طيف" رحمة يهوم في خياله، بعدما نفهم أن "أهله" تخلوا عنه، وان الوطن "مش راح يرجع". لكن كل هذا التوهم الذي يطرّي الحالات القاتمة، والسوداوية، التي تصل الى حدود الهذيان، والتمزق، والضياع، هذا التوهم لم يرد الكأس المرة التي راودت الفنان المفلوج: وهي كأس الانتحار، التي تجرعها في النهاية، وكان مهّد لها في كلامه، وفي صمته، وفي سلوكه. "من قطف زهرة الخريف" مسرحية - سيرة، كتبها واخرجها صاحبها. سيرة جرح مفتوح. وهذا يعني ان مجمل توجهات الكتابة، والاخراج، تنصب على حالة شخص. على حالة "بطل" مهزوم. تحركه هزيمته في كل اتجاه ممكن. حميمية وداخلية. لهذا يبدو لك، وانت تقرأ النص وتشاهد بعده المسرحية، وكأن عمل جبارة الجديد اقرب الى المونودراما. مسرحية الشخص الواحد والحضور الواحد والجاذبية الواحدة. الشخصية التي تتقدم وحدها الى الضوء. وما الشخصيتان الاخريان اي المايسترو الفاشل، وفتاة - الاحلام، سوى "عكازين" يخدمان الشخصية المسيطرة. لهذا، ربما، بدت الشخصيتان "المساعدتان" من دون قسمات، ومن دون "عمق"، تطوفان كطيفين حول الشخصية الرئيسية. وانعكس ذلك على كتابة، دوريهما، وتكوينهما الدرامي، فبدئا "مرتبكتين" واحياناً كثيرة "زائدتين"، "غير سميكتين" او "كثيفتين". فكأنّ مبررهما الوحيد ان تتكئ الشخصية الاولى عليهما، لتكونا ذريعتين، اكثر مما تكونان "شخصيتين" لهما تحركهما، وملامحهما، وانفاسهما الخاصة. وهذا ما اثر في علاقتهما بالشخصية الرئيسية، وخصوصاً بينها وبين المايسترو الفاشل، حيث بدت العلاقة غير واضحة، وغير متداخلة، وكأنها ينقصها "شيء" او يعتورها خلل. مظهر مونودرامي لكن لأن "من قطف زهرة الخريف" كانت مونودراما في عمقها، وكذلك في امتداداتها، فان الشخصية الاولى "تقدمت ككل عارية حتى العظم حتى الضعف الانساني. قاسية، حنونة، يائسة، غاضبة، متوترة، ساخرة، متناقضة، شرسة، رقيقة، درامية، ميلودرامية، تراجيدية، بسيطة، كاسرة ومكسورة، زاجرة ومزجورة، عدوانية منطوية. تطرح الاسئلة الكبيرة، وتغرق في التفاصيل. اي شخصية من الصعب ان تمسك بها، تزلق من بين اصابعك، وان كانت مرجعيتها "الواقعية" و"الشخصية" امامك. وان كان مرجعيتها اي ريمون جبارة نفسه معروفة الى حد كبير. شخصية تريد ان تقول كل شيء عن ذاتها. شخصية تريد ان "تتقيأ" كل ما في داخلها على الخشبة. كل ماتراكم وتكدس وركد فيها. شخصية مسلوخة أمامك. وقد عرف ريمون جبارة كيف يكتبها كتابة تشبهها. كتابة درامية طالعة من حالاتها، من موتها الداخلي. بلغة متنوعة، حارة، وساخرة، وحية، تلتصق التصاقاً حميماً، بشخصياتها، وبحالاتهم، وبتوتراتهم، لغة تقترب هنا من الشعر خصوصاً عندما تحنّ، وتنزلق الى الداخل، والجوفي، او عندما تتذكر، او عندما ترثي ذاتها، والعالم. لغة ساخرة، "غير مطهرة"، فجة، فظة، نافذة، "مروسة"، حادة، تجرح هنا، وتخمش هناك. لكن هذه اللغة الدرامية التي تصيب، وتكسر وتصفو، تشكو احياناً من تطويل، ومن تكرار، ومن تفسير، ومن مباشرة ومن مبالغة في استعمال كلمات وعبارات سهلة، وسوقية، كان يمكن ان يستغني جبارة عن كثير منها لأنه ليس في حاجة الى مثل هذه الكمية "الوفيرة" منها. ويبدو أنها صيغت كلها، او تفجرت ك "فشة خلق" او كحاجة داخلية انسانية. حاجة شاعر "يريد ان يحافظ، وهو على هذه الحالة المتوترة، على "عفوية" ما، وعلى تحرر من قيود والزامات، حتى كأنه، في ذلك، يريد ايضاً ان يلغي المسافة بين كلام مسرحي وآخر غير مسرحي، وتالياً بين وهم وواقع، بين شخصية وقناعها. لهذا فان المباشرة وهي كثيرة، واستخدام عبارات "نابية" وهي كثيرة ايضاً، كأنما يبرر هذا الالغاء نفسه الذي يطول كذلك الى ما هو جدي وغير جدي، الى ما هو درامي وغير درامي، الى جوهر العمل. انها مسرحية الحالة لم يشأ صاحبها ان يبعدها، في كتابتها واخراجها، عن الحالة نفسها. لم يشأ ان يموضعها. لم يشأ ان يحركها كما وانها حالة آخر. كما وكأنها "صانع الاحلام" او "شربل" او "دكر النحل" مسرحيات سابقة لريمون جبارة... فهذه المسرحيات اعمال مصاغة مشغولة بهدوء. مشغولة بهواجس تتجاوز مواضيعها وحالاتها. على عكس ما نجد في هذه المسرحية حيث ان الحالة تتقدم كل ما عداها. لذا فانها تأسرنا بقوة انفعالاتها وبقوة تمزقاتها، وبقوة مرجعيتها ايضاً وان التبست هنا ووضحت هناك. كأنما يجوز لنا ان نتساءل هنا: الا يحق لفنان مسرحي اسوة بالشاعر، ان يتكلم على نفسه؟ ان تكونه المسرحية؟ ان يكون كل شيء في المسرحية من دون ان يضع في المسرحية ما يمكن ان يحجب حضوره الانساني. وصرخته وتشنجاته. وكوابيسه... بلا اقنعة تتمثل بتشاكيل مشهدية مركبة، او بحذلقات اخراجية، او بوساوس كيفية؟ خاف جبارة ان يحجب الفن، اذا طغى كما في اعماله السابقة الجرح. اراد ان يبقى الجرح من لحم ودم على الخشبة، والدمعة في ملحها الحار، والسخرية في مرارتها الاولى، والحنين في ماويته، والخوف والموت والرهبة والحزن والقنوط والاشمئزاز في تعابيرها القريبة وفي التصاقها الحميم. الخاص يغلب العام هذه الحالات موجودة في كل مسرح جبارة، ممزوج فيها الخاص في العام، والواقعي في غير الواقعي، والمتافيزيقي في المادي، والعبثي في الجدي، لكن هنا غلب الخاص العام. وغلبت الحالة التجسيد، لهذا نجد ان ريمون جبارة لجأ الى "المسرح الفقير". المسرح الذي يستبقي حميمية وقرباً. الديكور ثابت وواقعي الى حد كبير، يشير الى الحالة "الاقتصادية" كما يشير الى الحالة النفسية وكذلك الى "هوية" الشخصيات: الاقنعة، الملابس، أشياء الموسيقى... اي ان جبارة لم يلجأ الى ديكور "مصنوع"، "مفبرك"، أو "رمزي"... وهذا اكسب المسرحية مناخاً حاراً، كما انه بفقره اي الديكور اكسب الممثلين حضوراً اكبر. فالديكورات الضخمة، والجمالية، تضعف حضور الممثل، واحياناً تلغيه، كما نجد في كثير من الاعمال المسرحية العربية وغير العربية، حيث يصير الديكور هو بطل المسرحية، او حيث تصير المسرحية من دون حضور "انساني" اذاً نبدأ بالديكور البسيط والمعبر حتى الشاعرية لنشير الى اهتمام جبارة بالحضور الانساني كعنصر اول، لكن الخطورة في ان الحوار الكثير، احياناً، يضع الممثل لا الحالة في المقام الثاني. والخطورة كذلك في ان يصبح الكلام ايضاً هو بطل المسرحية، هذا يهدد العمل ككل، ويربطه بالاذاعي. لكن جبارة تمكن من ايجاد توازن بين التدفق الكلامي وبين حضور الممثل، وهذا تم بالشغل على الممثلين انفسهم، اولاً، ومن خلال تحريكهم بطريقة حية، ومتنوعة ومقتصدة ايضاً. وتم ايضاً من خلال لعبة "الايهام". ولعبة "المسرح داخل المسرح" لكن، ليس على طريقة بيراندللو "المتدرجة" درامياً، وانما على طريقة التداخل الطبيعي بين ما هو واقعي وغير واقعي، اي التداخل في طبيعة الشخصيات انفسهم. انها الثنائية تتجسد من دون وسائل خارجية، وتتفجر في مختلف اتجاهاتها. ثنائية كل واحد منا. او الوجه والقناع عند كل واحد منا. هذه الوسائل المسرحية اضافة الى اخرى كالتمثيل الصامت، والتمثيل الايمائي، وكذلك لعبة "الايهام". ظلت محدودة... وان كررت. كما ان استخدام الضوء، والماكياج، والملابس، كلها ظلت ايضاً في حدودها "الطبيعية"، التي تبقي المسرحية مسرحية واقعية، صارخة بواقعيتها. لكن هذا لا يعني ان جبارة لم يشأ سوى عرض حالة، او تاريخ، او سيرة فحسب، فايقاع المسرحية، على رغم وسائلها المقتصدة، كان مشدوداً بقوة مسرحية، وبقوة ارتباطه بذاته، ووصوله الى الجمهور الذي "وقع في الاسر" وتأثر وضحك ودمع وانفعل.... وتمتع بمشاهدة عمل، وان اختلف عن اعمال جبارة السابقة، فان وراءه عيناً تعرف كيف تدير الممثلين، وكيف تحركهم، واصابع تعرف كيف تمسك بالايقاع من اطرافه، وذائقة، ونكهة، ورائحة "جبارية" طافحة. وقد ساعد جبارة على النجاح في ايصال ما يريد ان يصل، وفي تقديم عمل مميز، الممثلون الثلاثة الذين ادوا ادوارهم بتناغم، وبتماسك، وبتملك لادواتهم الدرامية. فكميل سلامة ادى دوراً "صعباً" متناقض الحالات والاحوال، وذا مرجعية معروفة شخصية جبارة، وعرف كيف يلتصق بالشخصية المرجعية التصاقاً حميماً، لكنه عرف ايضاً كيف يقربها اليه. وكأنه، يحاول قراءتها، وان بتعليمات المخرج جبارة قراءة ادائية خاصة، أو بالاحرى قراءة فنية تقترب من النموذج الاساس بقدر ما تقترب من فنية الاداء. نقول هذا ولا نغفل لحظات "ميلودرامية" او صراخاً، او تشنجاً، كان يمكن تجاوزها. موريس معلوف، الايمائي السابق، واجه دوراً ليس محدداً، واكاد اقول ليس مشغولاً. ومع هذا تمكن، من تقديم حضور محفّر، وخاص، ومتنوع عبر "الشخصيات" المتعددة التي تقمصها. جوليا قصار، رغم محدودية دورها، لمعت كدرامية، شفافة، ومتماسكة، ونافذة. انها من الوجوه المسرحية الكبيرة في زمن ندرة مثل هذه الوجوه.