وزير الدفاع يستقبل وزير القوات المسلحة الفرنسية    لغز البيتكوين!    الوعد ملهم.. العام المقبل    وزير التجارة: الاهتمام بالجودة لم يعد خيارًا بل واجب وطني تجسد في رؤية 2030    95 % إشغال فنادق الرياض خلال إجازة منتصف العام    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    ترمب وحل الدولتين.. الاستراتيجية السعودية للتجديد في الشرق الأوسط    أعضاء حكومة ترمب.. الأهم الولاء والتوافق السياسي    الله عليه أخضر عنيد    «الأخضر» جاهز للقاء إندونيسيا.. ورينارد يكاشف الإعلام    الخليج يضرب أهلي سداب بفارق 21 هدفاً    كازا الرياض بطلاً للكأس الفضية للبولو    ستة ملايين عملية عبر «أبشر» في أكتوبر    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    سعودي يفوز بجائزة أفضل إخراج سينمائي في نيويورك    تدريب 123 شابا منته بالتوظيف    رصد اقتران القمر العملاق بكوكب المشتري في سماء عرعر    النصر يطرح تذاكر مواجهته امام السد القطري    طبيب الهلال يكشف الحالة الصحية لثلاثي الفريق    للمرة الأولى دعوة لاعتبار هجمات إسرائيل على غزة إبادة جماعية    للمملكة فضل لا يُحدّ    تكريم رجال أمن بالطائف    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    رابطة العالم الإسلامي تدين استهداف قوات الاحتلال لوكالة "أونروا"    دور التحول الرقمي في مجال الموارد البشرية في تحقيق رؤية المملكة 2030    الابتسام يتصدر ممتاز الطائرة    منتدى الاستثمار الرياضي في أبريل    موافقة خادم الحرمين الشريفين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    وزير الدفاع والسفير الصيني لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    احتفال أسرة الصباح والحجاب بزواج خالد    إحباط 3 محاولات لتهريب أكثر من 645 ألف حبة محظورة وكمية من مادة «الشبو»    الخريجي وسفير أمريكا لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    وزير الصحة: 10 % نموي سنوي لقطاع الأدوية بالمملكة    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    "تلال" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب الرياض" بتوقيع اتفاقيات إستراتيجية لتعزيز جودة الحياة في مشاريعها    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    المتشدقون المتفيهقون    السخرية    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مئة عام على محاولة الدخول في العصر الحديث : للاوروبيين نهضتهم ولنا الإحياء
نشر في الحياة يوم 19 - 10 - 1992

في ايلول سبتمبر الماضي كانت مسألة النهضة العربية موضوعا لندوة مهمة نظمتها "دار الهلال" في القاهرة، احتفالا بمرور مئة عام على صدور العدد الاول من مجلة "الهلال".
وقد رأت الدار ان تجعل المناسبة فرصة لمراجعة القضايا التي تبنتها المجلة خلال الاعوام المئة الماضية، والتي تمثل في مجملها مشروعا للخروج من عصور الانحطاط والدخول في العصر الحديث، كقضية الاستقلال الوطني، وتجديد التراث، والدولة المدنية، والديموقراطية، واحلال التفكير العلمي المستند على الحقائق الموضوعية في الطبيعة والمجتمع والانسان محل التفكير الاسطوري، وقضايا المرأة، واحياء التراث القديم، والانتقال في الآداب والفنون من طور التقليد الى طور الابداع والتجديد.
وانا بالطبع لن ألخص ما دار في هذه الندوة المهمة التي شارك فيها عدد من افضل المثقفين المصريين والعرب الآخرين، ولن اتعرض في هذه المقالة لأي قضية من هذه القضايا على حدة. بل اريد فحسب ان اقف عند مصطلح النهضة وسواه من المصطلحات الكثيرة التي ارادت ان تشخص ما تحقق في هذه المرحلة التي بدأت من اوائل القرن الماضي واستمرت حتى الآن.
لقد تعددت هذه المصطلحات ومازالت تطلق كلها حتى الآن على هذه المرحلة، مما يشير الى اننا لم نتفق على تصور واحد لطبيعتها او لرسالتها الجوهرية في تاريخنا الحديث. الا ان هذا التعدد الذي لم ينته الى مصطلح شامل يدل ايضاً على ان التيارات والقوى الفكرية والاجتماعية التي اسهمت في النهضة، سواء في تشكيل مؤسساتها، او انجاز مشاريعها او وضع مصطلحاتها، قوى وتيارات كثيرة مختلفة تدل كثرتها على ان الامة كلها اشتركت في عملية التحول والتغيير، ويدل اختلافها على ان العمل القومي لم يتطور تطوراً كافياً يسمح لهذه القوى والتيارات بأن تتفاعل وتتجانس وتطور نظرتها للامور وتنخرط كلها في عمل مشترك يحقق اهدافه المعلنة.
* * *
والغالب على الظن ان مفهوم النهضة عندنا مفهوم مستعار من النهضة الاوروبية التي تحققت بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، واستطاع بها الاوروبيون ان يتحرروا من الحياة التي فرضتها عليهم الكنيسة طوال العصور الوسطى ويجعلوا حياتهم في الدنيا محور اهتمامهم. ومن هنا ظهرت حركات الاصلاح التي قصرت سلطة الكنيسة على الجوانب الروحية وكفت يدها عن التدخل في شؤون الحياة الاخرى، وتحققت الكشوف الجغرافية والعلمية، وازدهرت الفنون والآداب، واتسعت المدن، واشتد ساعد الطبقات الوسطى التي ستنتزع قيادة المجتمع من ايدي النبلاء، فيحل النشاط التجاري والصناعي محل الزراعة، وتقوم السوق القومية، وتتبلور فكرة الامة، وتنشأ الدول الوطنية على انقاض الامبراطوريات المقدسة، وتتوطد حرية الفكر، وتتراجع النظم المستبدة امام الجماهير المطالبة بالديموقراطية والدستور وحقوق الانسان. وهذا ما تحقق خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وانتقلت به اوروبا من عصر النهضة الى عصر التنوير.
ولا شك ان ما تحقق في اوروبا كان مثلاً أعلى استلهمه العرب واستفادوا منه، لكن في فترات قصيرة من عمر "النهضة" العربية التي غلبت عليها روح "الاحياء" فاتجهت الى الماضي العربي تستلهم عصوره الذهبية في انجازاتها الفكرية والعملية.
والحقيقة ان مسألة النهوض والسقوط كانت حاضرة دائماً في الوجدان العربي منذ اخذت سلطة الخلافة تتراجع في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي وما تلاه، ويتمزق العالم العربي الاسلامي نتيجة الانقسامات المذهبية والعرقية والغزوات الاجنبية، ويتحول العرب والمسلمون عامة من القوة الى الضعف، ومن الوحدة الى التفتت، وينعكس هذا كله في الشعر والنثر والفقه والفلسفة والتاريخ، كما نجد في حديث المتنبي عن الزمان الهرم الذي ظهر فيه، وفي حديث ابن خلدون عن العمران والخراب، وفي حديث الجبرتي عن القوة والانحطاط.
* * *
لقد استعار العرب للتاريخ صورة الكائن الحي الذي يولد ويشب ويهرم ويموت. ونحن نجد اصول هذه الاستعارة في ذلك التصور للعالم الذي غلب على العصور الوسطى كلها وتبناه العرب كما تبناه الاوروبيون، فأخذوا ينتظرون النهاية التي يمكن ان تكتمل بها دورة من دورات التاريخ تعقبها دورة جديدة، كما يمكن ان تنتهي بها الحياة ويكتمل التاريخ.
ومعنى هذا ان التاريخ لا يتقدم تقدما مطرداً ولا يتحول تحولا نوعياً يحقق في كل مرحلة جديدة ما لم يتحقق من قبل، بل يولد ويموت في دورات متكررة متعاقبة. ومن هنا اتخذت النهضة العربية صورة الاحياء، وربما استعير هذا المصطلح من الغزالي الذي سخر عبقريته في التنديد بالفلاسفة والتشكيك في قدرة العقل على معرفة الحقيقة. وقد تبنت هذا الموقف حركة الاحياء التي اتخذت الماضي العربي مثلا اعلى تعمل على استعادته واعادة بنائه في الحاضر، تستوي في هذا الاتجاهات القومية والاتجاهات التراثية التي تحدثت عن البعث واليقظة والصحوة. وهي اسماء تختلف الفاظها ويتفق معناها، لانها نشأت كلها من استعارة واحدة، فالنوم شكل من اشكال الموت، والبعث شكل من اشكال اليقظة. وهذا الاتفاق شاهد على ان المثل الاعلى واحد بالنسبة للقوميين والاصوليين معاً.
ولا أحد ينكر ما يمثله الماضي من قوة معنوية دافعة ساعدتنا في اعادة اكتشاف التراث وتجديده واحياء اللغة الفصحى والشعر القديم، ونفض الغبار عما في تاريخنا من قيم وتيارات عقلانية انسانية ديموقراطية منسية. لكن استلهام هذه القيم شيء واحياء الماضي شيء آخر. واذا كان الشعراء وعلماء الدين قد حققوا في ظل هذا الشعار نجاحاً ملموساً، فقد وقع رجال الاقتصاد والسياسة الاحيائيون في مأزق خطير، لانهم اداروا ظهرهم للممكن، وحاولوا عبثاً ان يأتوا ب "المعجزات".
* * *
واذا كان العرب قد بدأوا نهضتهم بالاحياء فقد سبقهم الاوروبيون الى ذلك. ومصطلح النهضة في اللغات الاوروبية Renaissance يحمّل هو ايضاً بالدلالات المختلفة، ومما يتضمنه معنى العودة للماضي الذهبي، وخاصة في مجال الابداع الفني والاصلاح العقائدي. فقد بدأت النهضة الاوروبية في الفن باحياء القواعد والمواضيع الاغريقية الرومانية واحلالها محل القواعد والمواضيع التي سادت في العصور الوسطى، وهذه هي الحركة الانسانية التي اعتبرت الحياة البشرية قيمة في ذاتها وموضوعا للدراسة والتفكير والابداع. وقد مثل هذه الحركة في عصر النهضة فريق من الادباء والمفكرين والفنانين منهم بترارك وارازموس وليوناردو دافنشي وسواهم ممن اتجهوا الى احياء القيم الجمالية والانسانية التي ازدهرت قبل المسيحية.
لكن العودة الى الماضي بالنسبة لرجال الاصلاح الديني كانت عودة الى الاصول بعيداً عن فساد جهاز الاكليروس الذي اثقل العقيدة بالطقوس الوثنية وشوهها بالانغماس في الشؤون الدنيوية. وهذا ما يمثله الراهب الايطالي سافونارولا الذي ظهر في مدينة فلورنسا يلقي مواعظه على الناس، فيتهمهم بالكفر، ويلهب عواطف الشباب حتى تجتمع حوله فرقة منهم جعلت غايتها ان ترد الناس الى حظيرة العقيدة الحقة ولو بالعنف والارهاب.
غير ان اسئلة الحاضر وقواه الحية الشابة هي التي فرضت نفسها في حركة النهضة الاوروبية فحولتها من احياء للماضي الى خلق لمستقبل جديد.
* * *
كانت الاسئلة التي واجهها رجال النهضة الاوروبية نتيجة لاتصالهم بالحضارة العربية المتقدمة من ناحية، ولظهور طبقة جديدة في المجتمع الاوروبي من ناحية اخرى، هي طبقة اهل المدن الذين كانوا شيئاً جديداً وسطاً بين النبلاء واقنان الارض لا يطمحون الى وضع النبلاء ولا يقنعون بمصير الاقنان، وبخاصة بعد ان حققوا في التجارة والصرافة والثقافة والمهن الاخرى ثروات طائلة ساعدتهم على ان يتحولوا الى قوة شابة مناوئة للكنيسة والنبلاء بقدر ما صارت ضرورية لتحقيق الرخاء والانفاق على الحروب وتمويل النشاط العلمي والاستعماري، وسوى ذلك من اهداف التقت فيها مع الدولة المركزية التي كانت تسعى هي ايضاً لتوسيع سلطتها على حساب سلطة الاكليروس والنبلاء. ومن هذا السبيل حققت النهضة الاوروبية اهدافها، وانتقل الاوروبيون الى عصر الاستنارة واستطاع اهل المدن ان يقودوا العامة، وينشئوا الدولة الوطنية والمؤسسات الديموقراطية والمجتمع المدني الحديث القائم على التعاقد الاجتماعي الحر بديلا عن نظرية التفويض الالهي ونظام الراعي والرعية. ومن الملاحظ ان هذه التطورات الاخيرة ظهرت اولاً في اوروبا الغربية حيث تطورت البورجوازية على نحو اسرع مما حدث في المدن الايطالية التي ازدهر فيها قبل غيرها عصر الاحياء.
هذا الشرط الاجتماعي، واقصد به ظهور الطبقة الوسطى وتصديها لتحقيق اهداف النهضة الاوروبية بايمان وشجاعة، كان غائباً الى حد كبير في النهضة العربية التي غلبت عليها فكرة الإحياء، فلم تخرج منها الى فكرة الولادة الجديدة الا في فترات خاطفة غلب عليها هي بدورها النقل عن الاوروبيين. والنقل بالطبع مرحلة ضرورية لا بد منها، لكنها لم تتطور كما كان ينتظر الى المشاركة بالابداع والاضافة.
ومن المؤكد ان المجتمعات العربية الاسلامية في العصور الوسطى لم تخل من طبقة مدينية، بل ان هذه الطبقة كانت عماد هذه المجتمعات، وعلى العكس من ذلك، فهي خلت من طبقة النبلاء، لكن السيطرة العثمانية على البلاد العربية، وملكية الدولة للارض، وهيمنتها على التجارة الداخلية اضافة الى هيمنة الاوروبيين على التجارة الخارجية وانتقالهم من مرحلة اكتشاف العالم الى استعماره، كل هذا اضعف الطبقة المدينية القديمة وجعلها تابعة للدولة التي كانت في بلادنا - ولا تزال - قوة وحيدة لا تشاركها في السلطة قوة اخرى، ولا يهدد وجودها الا الغزاة الاجانب الذين اجتاحوا بلادنا منذ نهايات القرن الاسبق - فكانت هذه المواجهة فرصة اطلعنا خلالها على تقدم الاوروبيين وتخلفنا، وكانت دافعا دفع بعض الحكام الى ان ينقلوا عن الاوروبيين اساليبهم الحديثة في الحكم والحرب، وهذا ما ادى الى نشوء فئة من الموظفين كانوا هم نواة الطبقة الوسطى التي تدين بوجودها للدولة والتي اضطلعت بتحقيق اهداف النهضة.
لكن هذه الدولة الحديثة التي اقامها بعض الحكام في بلادنا سرعان ما وقعت فريسة للمستعمرين الاوروبيين الذين سيطروا على الحكم كما سيطروا على الاقتصاد، فازدادت الطبقة الوسطى الوليدة تبعية وعجزت عن تبني المفهوم المستقبلي للنهضة، وانقلبت الى المفهوم الآخر وهو مفهوم الاحياء الذي كان يتوارى في بعض الاحيان ليعود اقوى مما كان في دورات متعاقبة لا تكتمل ابداً ولا تؤدي الى ما بعدها، وانما هي عود على بدء. فالطبقة الوسطى العربية بحكم نشأتها الملفقة ونشاطها الطفيلي ميالة للمحافظة والاتباع، وبخاصة في مراحل الهزيمة والانكسار، ومنها المرحلة التي نعيش فيها الآن، لكنها في اوقات المد والانتصار ترفع شعارات النهضة والتنوير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.