ظهرت العلمانية في أوروبا في القرون الوسطى نتيجة للشعور الجمعي بالظلم والاضطهاد والغبن تحت سلطة الكنيسة المطلقة. كان"الإكليروس"قبل ظهورها يضيق الخناق على الناس سياسياً واجتماعيا واقتصادياً، ويسيّرهم في الطريق الذي يتناسب مع توجهات مصالحه الخالصة... ولم يكن أمام شعوب أوروبا المغلوبة على أمرها سوى إعلان الطلاق من الكنيسة، لتنفك من تسلط الإكليروس، وبالتالي تتحلل من الارتباط بالله، باعتبار أن الكنيسة في الفكر المسيحي المحرّف هي الخيط الواصل بين الله والناس. ولا أعلم على وجه التحديد عمّا إذا كان ظهور العلمانية للمرة الأولى مرتبطاً بالثورة أو التهمة؟ أو بصيغة أخرى: هل العلمانية مصطلح تبنته الكنيسة ضد الناس كاتهام؟ أم هو مصطلح تبناه المجتمع للثورة على الكنيسة؟ لا علم لدي حول هذه المسألة، لكن ظهورها في الحالين - على أية حال مرتبط بالفكر الكنسي النصراني الخالص. دخلت العلمانية كمصطلح إلى اللغة العربية للمرة الأولى في عشرينات القرن التاسع عشر بواسطة القاموسي اللبناني إلياس بقطر... وكانت قبل ذلك وبعده ذات انتشار محدود في بداية"ترعرعها العربي"، حيث كان وجودها مقتصراً على مجتمعات الأقلية المسيحية العربية، لدرجة أن الدارس للتاريخ العربي في القرنين الماضيين لا يكاد يلمس وجوداً للعلمانية في مضارب بني يعرب... لكن ماذا حدث بعد ذلك؟ لنضغط التاريخ سوية، ولنقرأ الواقع: شيخ وقور تبدو عليه سيماء التدين والرشد يتهم مخالفاً له في الرأي والفكر بالعلمانية! العلمانية مرة واحدة؟ هل يتبنى هذا الشيخ الوقور فكراً كنسياً من حيث لا يعلم؟ أم أنه يرسم خطاً إسلامياً موازياً للخط المسيحي المحرف، بحيث يلبس أعداء الخطين لبوساً واحداً؟! هل يرى هذا الشيخ الوقورأن البيئة المحيطة بالكنيسة المليئة بالوظائف الدينية! تتشابه مع البيئة المحيطة بالمسجد الذي هو لكل الناس؟ هل يرى أن العلمانية ضد الكنيسة هي نفسها العلمانية ضد المسجد؟. أما جوهرة التاج لهذه الأسئلة : هل يرى هذا الشيخ الوقورالراشد العالم في عُرف مجتمعه أن ظهور العلمانية ضد طغيان الكنيسة هو في مصلحة الإسلام أم ضده؟! الحقيقة التي يجب الاعتراف بها بعيداً عن قلة علم الشيخ وجهل مُريديه وهتيفته، هي أن أرض الإسلام مهيأة الآن أكثر من أي وقت مضى لظهور علمانية جديدة مختلفة كلياً عن علمانية"المحاكاة العكسية"التي يقف الشيخ ضدها... علمانية لا تلبس ربطة العنق أو البابيون، بل تلبس الثوب والشماغ والعمة والصدرية والسروال والجلباب، علمانية تحمل سواد عيوننا وسمار بشرتنا، علمانية تستمد قوتها من فساد الطرف المقابل لها وغلوه واستئثاره بالمصالح والمنافع. لكن! هل يصح أن تتسمى بالعلمانية؟! المجتمعات العلمانية الغربية رفضت الدين وتبنت العلم... وراحت تفسر موجودات الحياة وأسرار الكون من منظور علمي تنظيري وتجريبي غير معترف بالدين. وعلمانيتنا الجديدة سترفض الدين... لكن ما الذي ستتبناه؟! ليس أمامها سوى الجهل... هي إذاً"جهلانية، جهلانية"ترفض الدين وتتبنى الجهل، يقابلها رجال دين يرفضون الحياة الحرة الكريمة للناس ويتبنون الجهل، وبالتالي فلا كفة اليمين ترجح ولا كفة الشمال ترجح، بل هما كفتان تتنافسان على الصعود إلى أعلى! ومن أهم مؤشرات ظهور الجهلانية الجديدة ما يأتي: - تنامي استخدام مصطلح"رجال الدين"بين العامة والخاصة، هذا المصطلح الدخيل الذي لم يكن له وجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والعهود المفضلة من بعده، ويقابله في الفكر الكنسي: الإكليروس. - تنامي سلطة المرجع الديني وتجاوزها لسلطة الحاكم، والمرجع الديني يقابل في الفكر الكنسي : الكاهن. - تنفّع الدائرة الدينية من الناس اقتصادياً ويقابلها في الفكر الكنسي: العشور. - حال الغليان الشعبوي المستمر ضد من يعتبرون أنفسهم ممثلين لله سبحانه وتعالى على الأرض وأوصياء على الدين الذي هو للجميع من دون الناس. كل هذه مؤشرات لأن يعيد التاريخ نفسه، لكن مفرغاً هذه المرة... والويل كل الويل لمن حاصره فراغ التاريخ. وليس لما سأكتب في هذا الجزء الأخير علاقةٌ بما كتبت في الجزءين أعلاه. لكنه ربما يكون مكملاً لوحدة الموضوع أو جاء نتيجة لكبر مساحة ظل سحابة العلمانية أو الجهلانية... لا فرق! من الخطأ جداً أن نلحق بوزاراتنا أو هيئاتنا الحكومية أو منظماتنا المدنية، إدارات للشؤون الدينية، فهذا يعني أن بقية الإدارات لا تعمل تحت مظلة الشؤون الإسلامية، بينما هي في الحقيقة قائمة على الإسلام نظرياً وعملياً، سواء أكانت إدارة أرشيف في مدرسةٍ في عرعر أم إدارة عمليات إنتاج النفط في حقل شيبة! يمكن أن نسمي هذه الإدارات، إدارات الوعظ أو الإرشاد أو الدعوة أو أي اسم جزئي مناسب لمهماتها، لكن أن نفصلها عن الإدارات الأخرى بإضافة" الدينية"لاسمها، فهذه هي العلمانية المضادة بعينها. ومثل ذلك تسمية جامعة الإمام محمد بن سعود بالإسلامية، وكذلك جامعة المدينةالمنورة الإسلامية، فهذا فيه أيضاً فصل غير مبرر، فكل جامعاتنا إسلامية، بما فيها جامعة الإمام محمد بن سعود وجامعة المدينةالمنورة، ولا يبرر تدريسهما للعلوم الشرعية تسميتهما بهذا الاسم، فالإسلام اسم شامل لكل مناحي الحياة، والعلوم الشرعية جزء من كل، يمكن أن نسميهما على التوالي جامعة الإمام محمد بن سعود للعلوم الشرعية وجامعة المدينةالمنورة للعلوم الشرعية... أما إلحاق"الإسلامية"باسميهما ففيه علمانية مضادة. فنحن لسنا كأوروبا العلمانية أو أميركا العلمانية، اللتين تنتشر بهما الجامعات والكليات اللاهوتية... إنهم يحتاجون لهذا الفصل لأن الحياة بشكل عام عندهم قائمة على الفصل بين الدولة والدين،ووجود الكليات والجامعات اللاهوتية يحصر معرفة الرب والارتباط به داخل أسوار هذه المؤسسات، وينفيه من مناحي الحياة الأخرى. العلمانية المضادة التي تظهر في أمثلة كثيرة عندنا يجب ألا تعيش في بلد قائم على الإسلام في كل صغيرة وكبيرة... وحريٌ بعلمائنا الأجلاء أن يتدارسوا هذا الأمر، وهم الأجدر مني على إثبات هذا المفهوم أو تصحيحه. * إعلامي سعودي [email protected]