من آخر حوار انتهت إليه شخصيات رواية"العمى"لغوسيه ساراماغو، تبدأ رواية"نزل الظلام"، إنه الحوار النهائي الذي طرحته زوجة الطبيب في العمى تقول:"لا أعرف لماذا عمينا، فربما نكتشف الجواب ذات يوم". وفي مقطع آخر تقول"نحن عميان لكننا نستطيع أن نرى"، هكذا تشترك الروايتان في قص الرؤيتين لكاتبين لهما التجربة نفسها والموضوع ذاته، يختلفان كثيراً لكنهما يشتركان معاً في بعض التساؤلات المتعلقة ببحثهما عن السبب المصيري للعمى، ومحاولة التغلب عليه بالحكي، وإجادة الوصف، وتمثيل الحقيقي في اللون وفي التخييلات البصرية المعقدة. فمن العتبة الأولى لصورة غلاف الرواية يصطدم القارئ المبصر بالألوان، التي لم تكن خلواً من الظلام والسواد الموجودة في عتبة العنوان"نزل الظلام". فالصورة تحوي ثلاثة أشخاص، هم أشبه بأشباح، بل هم أشباح لعدم وضوح ملامح وجوهم، ينظرون إلى قمر أبيض في سماء مدلهمة سوداء. ولم تحتو الصورة على أي لون آخر سوى هذين اللونين المتضادين الأبيض - الأسود. ولوحة الغلاف لهذه الرواية ظهر عليها توقيع اسم الفنان واضحاً، دون تحديد زمني لتاريخ اللوحة، وهذا الاسم جاء موقعاً ومكتوباً باللغة الإنجليزية hamdan، وجاء توقيعه في جهة اليسار من الركن الأسفل من اللوحة، وفي داخل الغلاف ذُكر اسمه كاملاً على النحو التالي: حمدان ناصر الحمدان. ولا أشك بعيداً في أن هؤلاء الأشخاص الثلاثة - الظاهرين في مربع صورة الغلاف- هم أنفسهم الشخصيات الثلاثة: البطل إبراهيم، وخالد، ومحمد الذين تناولتهم الرواية في أحداثها وانتهت بهم في آخر الأحداث وهم يواجهون العمى بالمجازفة ومحاولة الانفلات من قيد المصير، وتشابكهم معاً كجسد واحد وهم يقطعون الشوارع، فأصبحوا بتشابك أجسادهم كالحلول الصوفي، كالحرف الواحد، حيث إذابة الأجساد جميعاً في جسد وشيء واحد، يقول:" تشبثنا طويلاً كثلاثة تماثيل رومانية"ص119. ويجيء الحوار بين الشخصيتين خالد ومحمد المبصر والأعمى عن ماهية اللون: " سألني محمد: لماذا يوجد فرق بين ملمس الحائط؟..."ليصل في سؤاله:"هل لكل لون ملمس..، ألا تعرف الألوان يا خالد؟في قريتي يقولون السماوي من لون السماء ولكن البيج ماهو"؟ إن سؤاله عن ماهية الألوان لهو سؤال فلسفي يبحث في ماهية الفن وماهية اللون، لأن وصف اللون من الصعوبة بمكان شرحه للمبصرين إلا بإظهار القرائن والمتشابهات، فكيف بشرحه للعمي، لأن وصف الشيء غير المدرك في الشيء اللامدرك مصيره عدم التكهن والتصوير من خلاله. لهذا أعاده إلى مرجعيته السماعية في قوله يقولون أي لم يره كي يقول هو، وهنا تكمن فكرة الحوار قائمة على الأسئلة دون نتيجة واضحة للإجابة التي تفيد أو ترضي الطرف الآخر الذي لم يزل في بحثه عن الماهيات وحقائقها. احتفلت الرواية بعدد ليس بالقليل من الألوان، ألوان كثيرة كانت حاضرة، وهي واردة على النحو التالي: الأسود تسع مرات، الأبيض ست مرات، الأزرق ثلاث، الأحمر خمس مرات، الأصفر سبع مرات، الأخضر سبع مرات، الفضي مرتين، الذهبي مرة واحدة، الحنطي مرتين، الوردي مرة واحدة، البُنّي مرة واحدة، العسلي مرتين، البيج مرة واحدة، الرمادي مرتين، الزيتي مرة واحدة". كما وردت في الرواية عبارات تمثل انعدام اللون، وانعدامه دلالة سيميائية على أهميته لا العكس، ومثل ذلك على سبيل التمثيل قوله:"وجه براءة منحوت بلا ألوان"، و"ليغدو عالماً بلا ألوان". يكشف العدد المقارب لإحصائية الألوان عن أمور عدة، من بينها الإشارة الدلالية للون من خلال السياق اللغوي والتي هي دلالة مباشرة للعناصر السردية كالمكان والزمان والشخصية، إذ تبين من خلال ذلك غلبة اللون في عنصر المكان، إذ كانت وصفاً له في أكثر من 27 موضعاً، بينما عنصر الشخصية كان أقل من ذلك"أي ما يقارب 18 مرة. كما تبين من ذلك كثرة ورود اللون الأسود في مواضع وسياقات مختلفة في الرواية، كان أكثرها في الوصف. وإذا اعتبر اللون الرمادي واللون الباهت من درجات اللون الأصلالأسود فإن العدد سيصبح 13 وروداً لهذا اللون: اللون الأسود عشر مرات واللون الرمادي مرتين واللون الباهت مرة واحدة. وهو أعلى رقم يسجله اللون الأسود من بين الألوان الأخرى. وهذا اللون من شأنه أن يفضي إلى الحزن والتشاؤم، وإلى الظلام الذي أعلنه عنوان الرواية"نزل الظلام". واللون الأسود هو حالة انعدام اللون أصلاً، كما أن الظلمة"هي عدم الضوء بالجملة، وإدراكها يتم بالاستدلال بعدم الإحساس بالضوء"كما يقول ابن الهيثم في كتابه المناظر. وأوجد أسماء وأوصافاً لها دلالتها السيميائية الأخرى التي هي أقرب ما تكون معجماً آخر للظلام وللسواد، منها على سبيل التمثيل: العتمة، إذ وردت كثيراً، وفي مواضع وسياقات مختلفة، منها على سبيل التمثيل: "وقد نشر المساء عتمته"، و"أتجنب العتمة"، و"في أعمق وأعتم قبو"، و"العتمة السوداء"، و"عُتمة المكان"، و"حتى لو كانت بالعتمة"، و"النفق معتم"، و"عالم العتمة". ومن خلال هذا يمكن فهم الإحساس النفسي لشخصية الأعمى تجاه هذا الشيء المتمثل في المكان، من كونه فاقداً لهوية اللون هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تقود العتمة إلى الظلام والليل - عنوان الرواية - الذي تمثله سيميائياً. فالشخصية لا تسكن العتمة فقط، وإنما تعيشها وتستشعر وجودها ظلاماً معتماً، وهنا تتضح شخصية الأعمى الذي يحس بأشياء لا يدرك دلالتها المبصر. كما أن هناك مسألة اللمعان، وهي صورة تفضي إلى اللون - الضوء: منها على سبيل التمثيل، قوله:" صلعة لامعة"، جاءت وصفاً للشخصية، و"أتلمس لمعة الفص"جاءت وصفاً للأشياء. ودلالة هذا اللمعان في الرواية يظهر في المقطع التالي: "أتلمس لمعة الفص الكريستال المزين رأس إبريق الشاي". وهنا يجيء سؤال مهم"كيف للأعمى أن يتلمس اللمعانَ؟ وبخاصة أن اللمعان ليس جسداً كي يكون ملموساً، إنه من خلال المقطع السابق يتضح أن الشخصية لم تتلمس اللمعان كحقيقة، ولم تتلمسه بوصفه ضوءاً ولوناً، لأن هذا محال على المبصرين فكيف بالعميان، وإنما أرادت الشخصية تلمسها للجسد الشيئي متمثلاً في شكل الفص الكريستالي لإبريق الشاي. ومن جهة أخرى تحضر هنا معرفة الشخصية الثقافية بأن هذا الفص الكريستالي دائم اللمعان ليقول عنه ذلك، وليصفه بمثل ما يتلقاه عن الأشياء من ثقافة وسماع، لا عن مشاهدة وتلمس حقيقيين. والمعنى اللغوي المضاد لكلمة لمعان هو الانطفاء والخفُوت، الذي يمثله الإحساس النفسي من انطفاء ذاته مقابل رؤيته البصرية للأشياء، وهنا تكون دلالة العمى. كما أن حاسة اللمس تعتبر علامةً سيميائية للكشف البصري، الذي تحضر من خلاله لغة برايل التي ترد في هذه الرواية حينما تصفها الشخصية بأنها ضخمة وثقيلة، وهي في الحقيقة علامة سيميائية متكاملة بمعزل عن الرواية"أي كأشكال نقط صغيرة متجاورة ومتباعدة وبارزة في جسد الورق. لكنها في الرواية جاءت وصفاً على لسان الشخصية مرة بأنها أشبه بالسجلات الحكومية المهترئة، وقبلها قال:"ألكز زميلي إبراهيم بالحقيبة المثقلة بكتب برايل الضخمة". إنه بهذه الأوصاف لهذه الكتب يعطي دلالة سلوكية لقسوة المعاناة المضمرة تجاه هذا النوع من التعلّم وإعلان التضجر منه. وتنتهي الرواية على حدث المكان المفتوح، الذي هو تعبير صريح عن تحرر العُمي من المكان المغلق، لكنها لم تزل تعيش مأسورة بما أوردته من تعبير معلن عن ضياع الأمل مقابل البحث عن النور، تقول الشخصية:" ينزل ليشعل ناراً لا تضيء الظلام إنما تحرق أحلاماً لم ترها عين قط". إن فلسفة الشخصيات العُمي في نهاية هذه الرواية تكمن في الإعلان البصري لرسم هذا الوجود المليء بضجر الحياة وقسوتها ولعناتها المتتابعة، من تأثيث الظلام والعتمة والسواد في أكثر من وجهة، وفي أكثر من مكان، إنها رغبة الشخصيات المصابة بالعمى إلى كشف الحقائق الجوّانية من كونها استطاعت أن تتفوق على نقص غيرها في لمس الأحاسيس والمشاعر، والأصوات، والروائح وتمييزها والإحساس العميق بقداستها، والرغبة من خلالها في رسم الخلاص والتمرد والانطلاق في حرية لا تحدها سلوكيات المبصرين ولا أمكنتهم الضيّقة.