يمكن وصف المشهد الطبيعي لحراك المجتمعات البشريّة، في وجهه التفاعلي، أنّه حراكٌ متناوب بين فضاءين، أحدهما خاص متمثل في المنزل ومفردات العيش فيه، والآخر في الفضاء العام الذي تتحرّك فيه الجموع بين العمل والترفيه والتنقل والتلاقي والتفاعل الغريزي الذي شكّل الأساس لأخلاقيّات ونواميس العلاقة بين البشر. وكاستطرادٍ نابعٍ من التوصيف أعلاه، أتساءل: هل نعيش في المملكة العربيّة السعوديّة، في شروط سويّة للتناوب بين المكانين العام والخاص؟ ما يلاحظه المراقب لسلوكيّاتنا وتعاملنا في الحياة العامة، هو أمر مختلفٌ تماماً عمّا تعارف عليه البشر في كلّ الثقافات، فالمكان العام يكاد يكون منعدماً، بشروطه الطبيعيّة، ويبدو حراكنا خلاله إجباريّاً واستثنائياً، ومحاطاً بعناصر تفتته وتحيله إلى مجموعةٍ من الأماكن"الخاصة"، فمع انعدام وسائل النقل العامة، مثلاً، ننتقل إلى صناديق فولاذية، تحمل أفراداً غير متفاعلين مع فضاء واحد مشترك"النقل العام"، ويغدو الشارع جحيماً من التوتر الذي تعبر عنه سلوكيات القيادة وانفعالات السائقين، وفي التنزّه يتحول المكان العام إلى حظائر معزولة لكل كتلة عائليّة، مثلها المطعم والمقهى، فعندنا أعجب التصاميم التي تجعلك تخرج من منزلك إلى حظيرة مغلقة عمّا جاورها تأكل فيها بعيداً من الأعين، وتعود وراء جدار منزلك، أو استراحتك، والاستراحة، أيضاً، حصريّةً في ثقافتنا وتمثّل التعبير الأوضح عن الشخصيّة المزدوجة، فهي نتاج نواقص المنزل الطبيعي تشيّدها خارجاً لتضيف عزلة داخليّة على أفراد العائلة الواحدة، فاستراحة الأصدقاء، غير العائلة، غير النساء، غير الرجال... إلخ. لعلّ المراقب لبؤس المشهد يمكنه أن يتوغّل قليلاً فيرى أن كلّ أدوات التفتيت تُعمل معاولها في حياتنا، نابعة من ثنائيّات التوجس من الآخر والذات، ومن حال فصام مستمرة تشرخ الهويّة الآدميّة وتشظيها، فعزاب، وعائلات، وذكور وإناث، وأجانب وسعوديون... كلّها ملامح لعوامل التفتيت الدائم لهويّات الاستيطان المدني، وتبرير للهجرة الدائمة والمتواترة باستمرار من قلب المدينة إلى ضواحيها، فإذا أضفنا إلى كل ذلك الشخصيّة التربّصية للأفراد التي هي نتاج تربية ومثال السلطة بتجليّاتها كافة، رأينا كيف أن الإنسان في هذه البلاد، لا يعيش حياته الخاصة بحريّة، بل بعزلة، ولا يعيش حياته العامة بطمأنينة بل بحال مستمرّة من التوجّس والحذر والتربّص، ويبقى نَفوراً جَفولاً مضطرباً موسوساً، يخشى عيون الآخرين حين يذهب للمقهى أو يمارس الرياضة أو يرفّه عن نفسه، وإن لم يبرر لذاته هذه الحال، فسيجد من يسنده بفتوى تبرر سويّته الموهومة، وليست ببعيدة منّا الأمثلة التي تتكرر في كلّ مناسبة عامة، أو مكان عام أجبرتنا على ارتياده الحاجة وفرضت وجوده القوّة، وما الحديث عن هدم الحرم لفصل النساء عن الرجال ببعيد عن ذاكرتنا، وما يدور من سجال في احتفاليّات عامة كالجنادريّة ومعرض الكتاب، ومهرجانات الصيف، جميعها تنصب عليها سياط التوجّس والمراقبة والعزل ما يفرغها من مضمونها، ويجعلها قاصرة الرسالة مكسورة المعنى. إذا حاولنا أن نقرأ الشخصيّة السعوديّة في إطار وصفي يراعي المعطيات السابقة، فما نلبث أن نجد إنساناً مضطرباً في تأقلمه مع المجتمعات الأخرى، مستبطناً في لا وعيه أنّ كلّ ما هو خارج السعوديّة هو الفضاء العام الذي يفتقده في بلده"وهو بالمناسبة لا يشكو هذا الفقدان، بل يتعايش معه"، ولا يتجلّى التشوّه في سلوكه إلا عند خروجه إلى المجتمعات الأخرى، ويتطلب تأقلمه وإعادة تشكيل إيقاعه مجهوداً من التحايل والمناورة، وأحياناً المكابرة والادعاء والتنفّج والمباهاة بوصفه حارساً لما ظنّها تقاليده المحافظة، وهويّته الطبيعيّة، وما يلبث حين يتأقلم أو يندرج هناك في الحياة العامة، إلاّ أن يقتنع أن كلّ ما سوى بلده هو المكان العام، وأما في بلده فالحياة طبيعيّة وهو غير مشوّه التكوين، بل إنّ ذلك هو جوهر ما يجب أن يدافع عنه! ومن هنا تنهض أغبى مرافعات"الخصوصيّة السعوديّة"، ويكون المشهد في ملمحه النهائي مكوّناً من الآخرين الذين يرفّهون عنا هناك، ويقومون بخدمتنا هنا، هذا كل ما في الأمر، ولو تساءل وواجه نفسه وتأمّل كم منزلاً تحتاجه عائلة من خمسة أفراد، وكم سيارة تحتاج في المجتمعات السويّة، وكيف يذهب الطلاب والطالبات لمدارسهم وجامعاتهم، لوجد أن نصف مصروفاته ينفقها على التحايل على ذاته بعدم استثمار الحياة العامة بالشراكة الطبيعيّة مع الآخرين في العمل والتنقل والترفيه ووجوه الحياة كافة، إن هذا الإنسان هو من صنع عناصر بعثرة دخله وجهده بلا مبرر حقيقي! كثرة الحواجز والأبواب في منازلنا وأماكننا العامة ما هي إلاّ التعبير الصارخ عن حواجز وأبواب نفسيّة لمجتمع يشرعن التوحّش والعزلة والخوف من الآخر البعيد والقريب، ويبحث له عن مسوّغات لهذه التشوّهات، ويغطي الخلل بقدرة ماديّة ما أن انكشفت، حتى بدأ يحاول إيهام ذاته بحلول تتحايل على مسبباتها الثقافيّة، والإبقاء عليها معلّقة فوق رقابنا تنهرنا إن تحدثنا عن أهميّة وسائل النقل العامة بدلاً من ترك عشرات الآلاف لأعمالهم ليعيدوا أبناءهم وبناتهم من المدارس والعمل، أو إن قلنا إن تعمل المرأة وترتاد مواقع الحياة العامة في ظل القوانين والأخلاق التي لن يحفظها الأمر والنهي، بل ستحفظ بالتعايش والاحتكاك والتفاعل السوي الذي يقدّم آدميّة الإنسان على حيوانيّته وغرائزيّته، أما في ظل الحراسة والتربص فلن يلتفت المكبوت إلاّ إلى أولويّة الغريزة وحيوانيّة النزعة، ويبقى أن أقول إنّ تعميق الدراسات الاجتماعيّة من المؤسسات البحثيّة والأكاديميّة هو الطريق الأفضل لتشريح الظواهر السالبة للإنسان والمجتمع، فكثير من الخلل ترسّخ فينا كون علاجه تم كتغطية له وتبرير لوجوده، وأننا جبلنا عليه، في حين أنّه ناتج عن أخطاء في تسيير النموين المادي والاجتماعي، وفي فلسفة التنمية ذاتها، التي لن ينضجها ويضمن استدامتها سوى إعادة هندسة الفضاء الاجتماعي نحو إنسان لا يكره الحياة، ويتناغم مع طبيعة البشر الأسوياء. * شاعر سعودي.