تعتبر اتفاقات وقوانين حقوق الملكية الفكرية، وما تفرع عنها من بروتوكولات وقوانين بينية، من أهمّ بل وأشرف ما شرّعت وطبقت أنظمته الدول المنضوية تحت منظمة التجارة العالمية، ليس لضبط آليات تسليع الثقافة كمنتج فقط، بل لحماية حقوق المفكرين والمبدعين، بوصفها المنتج الأول لأفضل ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات وهو"العقل". وفي الجانب المعرفي والإبداعي كثيراً ما شهدنا تطبيقات صارمة، تطارد القرصنة الفكرية وتعاقب منتهكي هذه الحقوق، ومارست وزارة الثقافة والإعلام هنا دوراً جيدا في تطبيق معايير واشتراطات هذه الاتفاقات، وحماية الحقوق الفنية والأدبية، وإن كانت انشغلت بجوانب علاقتها بالفنون السمعية والبصرية ومرافق تسويقها أكثر من اهتمامها بحقوق المؤلفين، ومنتجي الإبداع والمعرفة المكتوبة، فأهملت البعد التعاقدي بين المبدع والكاتب من جهة، ودور النشر وما في حكمها أو مؤسسات الثقافة والمناسبات المنبثقة عنها من جهة أخرى، وحوّلت بذلك حقوق الأدباء تحديداً، إلى مجرد مكافآت خاضعة للاستمزاج الشخصي، وقابلة للتملص من الالتزام بها، فعلى مدى أكثر من 30 عاماً شاركت في عشرات المناسبات بين أندية أدبية ومهرجانات ومؤتمرات ومنابر أخرى، لم أحصل في يوم من الأيام على مقابل مادي نتيجة تعاقد مع الجهة الداعية، أو بموجب قرار يشير إلى نظام محدد ومكتوب، فلا يتعدى الأمر دس ظرف مغلق فيه مبلغ نقدي! لم أعلم في أي مرة بآلية تحديده، فالقرار المزاجي أو الارتجالي يبدو نتاج لوائح بائسة أو تقديرات شخصية، ولا توجد أدنى مرجعية لهذه المكافآت توحي بالرجوع للاتفاقات والأنظمة التي تحمي بكل صرامة حق الأداء العلني للفنانين ومنتجي المواد السمعية والبصرية الذين أصبحوا جزءاً من نظام السوق الاستهلاكي، وعجزت عن حماية الكتاب والأدباء! وإذا كان لي أن أتتبع مكمن الخلل في تجاهل حماية حقوق الأداء العلني في الأمسيات والندوات وتسجيلاتها وبثها، فلا بد من أن أربطه بتلك العادة الإدارية بين مرافقنا المختلفة، التي تولي الاتصال الرأسي داخل المؤسسة نفسها، أكثر مما تولي علاقتها بالأنظمة المعمول بها تحت مظلة وزارة أخرى، فالأندية الأدبية على سبيل المثال كانت تعد لوائح مكافآتها بعيداً عن أنظمة وزارة الإعلام في حماية حقوق المؤلف، والشواهد عايشتها فعلاً، أو حين تقام فعاليات ثقافية وإبداعية لمهرجان كالجنادرية، أوغيره من المناسبات. لا أقول إن الحقوق المادية مهدرة بالجملة، ولكني أتساءل عن طبيعة المعايير التي جعلتني على سبيل المثال أشارك مع زملاء آخرين في فعاليات مهرجان الجنادرية قبل عامين، فيحصل بعضنا على مبلغ مادي كمكافأة، وتغيب عن الباقين. وحين ألحّ في السؤال عن السبب أجد تهرباً واضحاً من الإجابة، ليس لي وحدي إنما شاركني في ذلك الشعراء منصف المزغنّي من تونس، وأحمد بخيت ومحمد أبو دومة من مصر، وحررنا خطاباً بذلك في حينه، وتهرب صديقنا الشاعر الذي قال بمكافأته وتنصل من توريطنا في تساؤل أظهرنا كمستجدين لمنحة تساوينا به، لا مطالبين بحق أداء علني عبر منصة إعلامية تستوجب العوض المادي لنا نظاماً، ليس محلياً فقط بل ودولياً، ونحن دولة عضو في المنظمات المعنية بذلك. وكي لا يأخذ كلامي هذا مساراً سجالياً تفنّده هذه الجهة أو تلك وتغلقه على دائرة قضية شخصية، فإنني أضع كامل تساؤلي أمام وزارة الثقافة والإعلام المعنية أصلاً بهذا، وأيضاً أمام وزارة التجارة، وأتساءل عن مدى اعتماد الاتفاقات في مجال حماية الحقوق، حين وضعت لوائح مكافآت الأندية الأدبية، وهل من مهماتها متابعة تطبيق هذه الحقوق لدى الجهات الأخرى، وإلزام تلك الجهات بتطبيق معايير قانونية لهذا؟ وهل هناك نماذج تعاقدية ملزمة لكل مؤسسة ثقافية أو برنامج ثقافي أو مهرجان، بحيث يوقع الطرفان الداعي والمشارك على صيغة توضح الحقوق والواجبات؟ لقد شهدت مثل هذا في دول عربية أقل منا في كفاءتها الإدارية والقانونية، فقبل الفعالية أو في جزء من الدعوة الموجهة لي، كانت هناك مساحة توضح مثل هذا وتحدد إطار التنازل زمناً ومكاناً والمقابل المادي، وبصرف النظر عن حجم ذلك المقابل، إلا أنه يجعل الكاتب أو المبدع في مساحة تمنحه الحرية الكاملة للقبول والرفض والتفاوض، وتعطيه الصفة القانونية كطرف في عملية الأداء العلني. أتمنّى أن أجد أمامي في مشاركة قادمة هنا، عقداً يحدد لي حقوقي وواجباتي في هذه المشاركة أو تلك، لنحفظ ماء وجوهنا، ونكفّ عن اعتماد القيل والقال كمصدر لمعرفة هل لنا حقوق أم أن المسألة مجرّد فزعة وطنية منا؟ أو منة يمنّ بها علينا بعض مصممي برامجنا الثقافية، بل ربما يسخرون من مطالبنا، هذا في الفعاليات العامة، ومؤسسات الثقافة ،أما دور النشر فلها حديث آخر...!