كانت الإدارة الأميركية في عهد بوش الإبن، وفي ظل المحافظين الجدد، تسعى إلى نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط بالقوة. شنت حروباً، بعضها ما زال مشتعلاً حتى الآن (أفغانستان والعراق) واستعدت أصدقاء كثيرين. لكنها اصطدمت بمقاومة عنيفة جعلت «حكماء» الحزبين الجمهوري والديموقراطي يلتقون في محاولة لتغيير سياساتها بالعودة إلى الأصدقاء، مفضلين الإستقرار في ظل الإستبداد على الفوضى التي لا يمكن أن يتكهن أحد بما ستؤول إليه، خصوصاً في المناطق الحيوية للإقتصاد الأميركي وللمصالح الغربية، فكانت وثيقة «بيكر هاملتون» التي أعادت البيت الأبيض إلى سابق عهده في التعاطي مع الحلفاء الذين يحتاجهم لمواجهة الأعداء. في عهد أوباما تغيرت المعطيات والظروف، تأكدت عبثية الحروب فكان قرار الإنسحاب من العراق (نهاية العام الحالي) ومن أفغانستان، فبدأ الصراع على ملء الفراغ الذي سيخلفه هذا الإنسحاب. صراع أميركي- باكستاني وصل إلى حدود القطيعة بين الحليفين وهناك محاولات الآن لتسوية الخلافات بينهما. وصراع في الشرق الأوسط بين الدول الكبرى في هذه المنطقة، وبين بعضها والولايات المتحدة. في هذا الإطار يمكن وضع التغيير في السياسة التركية، من «صفر مشاكل» إلى طرح أنقرة نفسها القوة العظمى الإقليمية الوحيدة، وإلى التدخل في الشؤون العربية (في مصر وسورية) لتوجيه «الربيع العربي» في اتجاه «الديموقراطية الإسلامية» التي أصبحت نموذجاً ترى فيه واشنطن مخرجاً للأزمة. نموذج غير معاد للغرب، لا بل متحالف معه، يلبي تطلعات الشعوب المطالبة بالحرية. وكان طبيعياً ان تصطدم تركيا بدول أخرى، في مقدمها إيران التي تحاول تعميم نموذج آخر للحكم الإسلامي، تؤكد أنه ديموقراطي ولا يخالف الشريعة، فضلاً عن أنه ينسجم مع تاريخ شعوب المنطقة. وليس مرتبطاً بالغرب ويعادي إسرائيل. هذان النموذجان الإسلاميان للحكم ومحاولات تعميمهما في المنطقة العربية والإسلامية تقف في وجهيهما خلافات مذهبية عمرها مئات السنين، فضلاً عن توجهات قومية ترى في القوتين الإقليميتين ونظاميهما الإسلاميين غطاء لمطامع قومية لا تخفيها أنقرة ولا طهران. أما واشنطن فمتحالفة مع «الإسلام الديموقراطي» وتسعى إلى تشكيل قوة تملأ الفراغ وتتصدى للطموحات الإيرانية، من خلال تفكيك التحالف الإيراني - السوري-العراقي، معتمدة على تركيا التي أخذت على عاتقها تغيير الأوضاع في سورية، مستخدمة المزيد من الضغط على طهران ودمشق، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور في العاصمتين العاصيتين. وإذا لم يستتب الوضع سيكون على أنقرة ودول أخرى إدارة الفوضى في المنطقة. فوضى تغرق الشرق الأوسط في حروب مدمرة تجدد الإستبداد وتبعد الحرية.