من دمشق إلى بغداد إلى القاهرة إلى طهران، ينتقل وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، متوسطاً بين دول عربية وصلت خلافاتها إلى حد القطيعة الديبلوماسية والتهديد باللجوء إلى مجلس الأمن، وبينها وبين إيران المتهمة بتصدير أفكارها من المحيط إلى الخليج، ولا يتردد في تبني وجهة نظر طهران في مفاوضاتها مع أوروبا والولاياتالمتحدة حول برنامجها النووي. ولا ننسى، بطبيعة الحال، إضطلاع أنقرة بالمفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب، وموقفها من الحرب الإسرائيلية على غزة. الواقع أن تحرك منظر العثمانية الجديدة يؤكد أن تركيا أنجزت عملية مصالحة تاريخية مع ذاتها، وتسعى إلى تكريسها مع محيطها الذي كان ولايات تابعة لإسطنبول، والأهم من ذلك أنها تجاوزت خلافاتها القديمة مع عدوها التاريخي، أي إيران التي تحولت إلى عدو للعرب. رفضت أنقرة الدخول في مهاترات مع النظام الإيراني لأسباب كثيرة، منها أنها ليست خاضعة كلياً لسياسات الولاياتالمتحدة، وتعرف كيف تخاطبها من موقع الحليف، وكيف تتخذ مواقف مستقلة. و أنها لا تخاف تصدير الثورة. نذكر في هذا المجال رفضها استخدام أراضيها لشن الحرب على العراق. في المقابل نجد العرب، حكومات وشعوباً، يعودون إلى تاريخهم القديم وإلى أيديولوجياتهم الدينية. الحكومات، حتى التي تدعي الديموقراطية والانتماء إلى العصر، سرعان ما تلجأ إلى الاحتماء بالدين لتبز الجهاديين وتكسب شرعيتها من الغيب، والشعوب تتوهم أنها تتغلب على الحرمان والفقر باللجوء إلى الغيب أيضاً أو إلى الإرهاب. بدأت تركيا الإسلامو - علمانية، بعد تجاوز عقدة تاريخها السلطاني، السعي إلى تشكيل محور إقليمي مع إيران وسورية، متجاوزة الخلافات المذهبية والعرقية والتاريخية. على أن هذه المحاولة تصطدم برفض داخلي ظهر في الصحافة وفي بعض مراكز الأبحاث التي يسيطر عليها منتمون إلى اليسار المتطرف أو اليمين الأشد تطرفاً، مثل الحزب القومي بزعامة دولت بهشلي، أو حزب الشعب بزعامة دينيز بايكال، فضلاً عن المغالين في ليبيراليتهم وتغربهم الذين ما زالوا يرون تشكيل محور من تركيا والمانيا وفرنسا وإسرائيل (باعتبارها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط) يكرس انتماءهم الأوروبي. وفي المحيط تصطدم المحاولة برفض أو تحفظ دول عربية، تعتبر عن حق أنها الأولى بمعالجة شؤون المنطقة. وترى أن سورية ستكون الطرف الضعيف في هذا المحور الجديد الذي يطمح إلى ملء الفراغ بعد الانسحاب الأميركي من العراق. لكن عدم المبالاة العربية، التي وصلت إلى حدود ترك الأميركيين والإسرائيليين يتفاوضون نيابة عنا وعن الفلسطينيين لتقرير مستقبلهم ومستقبل المنطقة، وانتظار الضربة الإسرائيلية لإيران، أملاً في ثنيها عن أطماعها، يزيد المشكلة تعقيداً والخلافات ضراوة. والأحرى أن يكون هناك محور عربي لأن قضايا الشرق الأوسط معظمها عربي، لكن دون ذلك وهم الدفاع عن نفوذ غير موجود، ووهم الشراكة مع حلفاء الضعيف فيهم الولاياتالمتحدة.