سأتخيل للحظات أن البنوك المحلية بدأت بالفعل في تطبيق قرار مؤسسة النقد بالموافقة على إصدار البطاقة الإلكترونية مسبقة الدفع، وهي ما تُسمى بالمفهوم الاقتصادي"النقد الإلكتروني"، وهذا يعني أنك لن تحمل أي مبالغ نقدية في جيبك، إنما ستتعامل مع هذه البطاقة وتدفع عند الحساب بدلاً من النقود الورقية، تعالوا نجرب هذه البطاقة على أرض الواقع، على الخطوط الطويلة تقف في محطة بنزين، وبعد أن تقوم بتعبئة خزان الوقود وتقدم له البطاقة الإلكترونية يعتذر منك عامل المحطة بعدم وجود شبكة ولا توجد لديهم أصلاً خدمات الدفع الإلكتروني، ولأنك تعرف أنك قد تتعرض لموقف محرج، تخرج له العملات الورقية التي كنت قد وضعتها في جيبك، وفي صالونات الحلاقة والمغسلة ومطاعم الرز البخاري والمندي بأنواعها المختلفة، البقالة الموجودة بالقرب من منزلك، مصروفات أسرتك المدرسية والمنزلية، احتياجاتك في حلقة الخضار وسوق الماشية، عند الخياط. وغيرها. الكثير من المواقع والجهات التي تتعامل معها يومياً، فماذا تستفيد إذا كنت أنت الوحيد من بين كل هؤلاء الذي يحمل بطاقة نقد إلكتروني، إلا إذا كنت تريد أن"تتفشخر"بهذه البطاقة لتبرزها أمام الناس كجزء من الوجاهة الاجتماعية. وفي الأخير تكتشف أن البنك الذي أعطاك هذه البطاقة يتعامل مع مجموعة محددة من المطاعم، ومراكز التسوق الكبرى، وشركات خدمة السيارات، ومؤسسات خدمية ذات أسعار عالية، وبذلك ترتفع كلفة المعيشة لديك. وتدريجياً ستجد نفسك ومعك مجموعة من الأشخاص يحملون بطاقة نقد إلكترونية، إنما على أرض الواقع لا يمكنك أن تستفيد منها إلا في مواقع محدودة، ولا أستبعد أن تتجه البنوك من باب"الرفاهية"إلى إنشاء نادٍ ورسوم اشتراك سنوي وعضوية لحاملي البطاقة مسبقة الدفع. جميل هذا التطور في مجال التعاملات النقدية، وحفظها من السرقة وسهولة التعامل معها، إنما المستفيد الأول من هذه البطاقة وهو العميل كم في المئة من تعاملاته اليومية يستطيع إنجازها خلال اليوم، فالبنوك من مصلحتها أن تبيع أكبر قدر ممكن من هذه البطاقات، فهي مورد دخل إضافي لها، بحسب قرار مؤسسة النقد الذي صدر قبل أسابيع، وليس مهماً لدى البنوك إن كانت البنية التحتية لتنفيذ هذا المشروع تكفي أم لا، وهل هي آمنة أو لا، بحسب قرار مؤسسة النقد تقدم البنوك المحلية خدمة الدفع المسبق للعملاء الراغبين فيها، بحيث يتم فتح حساب مصرفي يودع به العميل مبلغاً نقدياً ويحصل على بطاقة نقد إلكتروني مرتبطة بهذا الحساب لاستخدامها في عمليات شراء السلع والخدمات من خلال أجهزة نقاط البيع، وكذلك الحصول على النقد أو الاستفسار عن الرصيد من خلال أجهزة الصرف الآلي، إضافة إلى تنفيذ عدد من الخدمات من خلال الهاتف المصرفي و"الإنترنت"، ويمكن كذلك استخدام تلك البطاقات لتسديد الفواتير والخدمات العامة من خلال نظام سداد للمدفوعات. وتوفر الخدمة الجديدة للعميل مرونة عالية في إدارة رصيده المتوافر في حسابه المصرفي، مثل توزيع الرصيد على أكثر من بطاقة، مع التحكم في حدود السحب لكل بطاقة وتحديد نطاق استخدام البطاقة محلياً ودولياً. وتتعدد أنواع البطاقات التي يمكن إصدارها تحت هذه الخدمة مثل بطاقات الرواتب، وبطاقات الأسرة، وبطاقات الطلبة وبطاقات الزوار. وتختلف هذه الحسابات عن الحسابات الجارية الحالية كونها حسابات إلكترونية بشكل كامل وإجراءاتها فورية ومصممة لاستخدامها في تسهيل عمليات السحب والدفع الآلي. وستقدم هذه المنتجات مرونة عالية للعملاء وفي مختلف المجالات، على سبيل المثال: تسهيل قيام الشركات والمؤسسات التجارية بتحويل رواتب موظفيها إلى حساباتهم المصرفية المفتوحة، بحسب هذه القواعد، ومن ثم يقوم المستفيدون باستخدام البطاقات للسحب النقدي أو التسوق، سداد الفواتير، التحويل، تمكين الطلبة من الحصول على بطاقات مرتبطة بالمؤسسات التعليمية التابعين لها تسهل الحصول على المنافع التعليمية واستخدامها للسحب النقدي أو التسوق، توفير أدوات لرب الأسرة تسهل إدارة مصروفاته عبر إنشاء حسابات فرعية مرتبطة بحسابه وإصدار بطاقة لكل حساب، وبالتالي يتمكن من تحويل مبالغ لهذه الحسابات لاستخدامها من أفراد الأسرة. الانتقال من النقود الورقية إلى النقد الإلكتروني خطوة جيدة، ولا أود أن أقلل من المشروع، إنما يجب ألا يكون العميل هو الضحية من هذه الخدمات الجديدة التي تقدمها البنوك. نحن نعلم كيف يواجه العملاء مشكلات الصراف، وبعض البنوك لا تقبل بطاقة بنوك أخرى، وتستقطع أجهزة الصراف من 3 إلى 5 ريالات في عمليات السحب إن تمت من أجهزة صراف لا تتبع البنك الذي يوجد فيه الحساب، السؤال الذي يفرض نفسه: كم سيسحب البنك كرسوم خدمة نتيجة هذه التعاملات؟ خصوصاً إذا عرفنا أن هذه هي الخطوة الأولى وتتبعها خطوات لتشمل باقي مراكز الخدمات الاستهلاكية؟ نحن مجتمع لا يزال يعيش تناقضات الفتاوى التي تحرمه التعامل مع المصارف والبنوك، والكثير منهم لا يزال يعتقد أن"الدولاب"هو المكان الآمن لحفظ الأموال، وآخرون يعجبهم منظر المال أمام أعينهم، فيما معظمهم يسحب أمواله من أجهزة الصراف من أول زيارة خشية الاستقطاعات. تجربة النقد الإلكتروني حديثة العهد في كثير من الدول المتقدمة، وهي تتوافق مع طبيعة المجتمع ومحيطه المتطور، لهذا فهي جزء من مكونات الحياة الأساسية للناس وليست ترفيهية أو مكملة للوجاهة الاجتماعية، وحينما يطرح مشروع مثل هذا في مجتمع لا تتوفر فيه بنى تحتية ولا ثقافة مصرفية ولا توعية من احتيالات أو كيفية التعامل مع هذه المنتجات المصرفية، كما لا توجد رقابة صارمة من مؤسسة النقد على خدمات البنوك والمصارف في حال تعرض أحدها لمشكلة أو سوء خدمة أو تعطيل، كل هذه الأشياء يجب الأخذ بها في الاعتبار، ولا يمكن أن نركن إلى طرح منتجات تستهدف الربح للبنوك وزيادة موجوداتها ودخلها، وهي على أرض الواقع ليست سوى بطاقة ترفيهية. أتمنى من مؤسسة النقد أن تضع ضوابط مشددة تهدف إلى كيفية تمكين العميل من اقتصاص حقه بشكل سريع وغير مبرر للتأخير في حال لم تعمل هذه البطاقة في مواقع الدفع أو بأي طريقة أخرى. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]