حينما صَمَتَ محمد الثبيتي خسرت جغرافيا اللغة أكبر أقاليمها في وطن الشعر ... في ذكراه مبدعاً جميلاً وصديقاً أجمل! الريحُ تنأى.. عزاءً أيُّها القَصَبُ! لن نسمعَ النَّايَ بعد اليومِ ينتحبُ لن نسمعَ الخمرَ تُرغي وَسْطَ حنجرةٍ فيها يُحَدِّثُ عن أسرارِهِ، العِنَبُ وشاعرٌ هَرْوَلَتْ في مَرْجِ خاطرِهِ قصيدةٌ/مهرةٌ يعدو بها الخَبَبُ مسافرٌ في مجازٍ لا سماءَ لهُ إلا السماءُ التي في الرأسِ تنتصبُ أقدارُهُ كلَّما زَلَّتْ سلالمُها في الأُفْقِ، تسندُها الغيماتُ والسُّحُبُ يُزَيِّنُ الأرضَ من أصفَى معادنِها فليسَ ثَمَّةَ إلا الفكرةُ الذَّهَبُ ما خطَّ بيتينِ كي يغفو بظِلِّهِماَ إلا وقافِيَتاَهُ: الهمُّ والتَعَبُ *** كان الطريقُ غريباً مثل سالكِهِ ورغبةُ المشيِ قد فاضَتْ بها الرُّكَبُ وكنتَ أنتَ نُوَاسِيًّا، تغازلُهُ كأسٌ فتجذبُهُ حيناً وتنجذبُ كأسٌ إذا احْتَجَبَتْ عَمَّنْ يُعاقِرُها لم تستطعْ عن أبي النَوَّاس تحتجبُ عكفتَ في حانةِ الأيامِ تُدْمِنُها فَنًّا، ويُدْمِنُكَ الإعياءُ والنَّصَبُ وكلَّما زهرةٌ في الروحِ أحرقَها حزنٌ، ودَخَّنَ في أعصابِكَ الغَضَبُ آوَيْتَ للكأسِ مأوى العارفينَ بها درباً على ملكوتِ الفنِّ ينسربُ *** ونحنُ كُنَّا الندامى.. لستَ تجهلُنا.. قد شدَّنا بِكَ من أوجاعِنا، عَصَبُ مِنْ فُرْطِ ما غاصَ فينا السُّكْرُ ليسَ لنا غير ابنةِ الكَرْمِ لا أصلٌ ولا نَسَبُ نحن اليتامى.. يتامَى كلِّ قافيةٍ لها الحقيقةُ أُمٌّ والسؤالُ أَبُ! كلُّ الأباريقِ ثكلى في مآتمِنا تفورُ بالوجدِ حتَّى يجهشَ الحَبَبُ ونحنُ أضعفُ في أقدارِ لعبتِنا من الذين على أقدارِهِمْ لَعِبُوا ننقادُ عَكْسَ أمانينا كحافلةٍ على الطريقِ الذي تهواهُ تنقلبُ لسنا سوى فُقَهاَءِ اللحنِ.. شِرْعَتُنا ما شَرَّعَ النايُ أو ما سَنَّهُ القَصَبُ المُغْلَقُونَ وكفُّ الشِّعرِ تفتحُنا همساً، ونحن على رَفِّ الأَسَى عُلَبُ تروي القصائدُ عنَّا أنَّ أجملَها ما ليسَ تُكْتَبُ إلا حين تُرْتَكَبُ رَحَّالَةٌ نحنُ في الرُّؤيا.. أُولُو ظَمَأٍ.. مَرُّوا على النَّهْرِ حيث الكوثرُ العَذِبُ مَرُّوا على النَّهْرِ والسُّقْياَ تُرَاوِدُهُمْ لكنَّهُمْ راوَدوا السُّقْياَ وما شربوا كانوا على موعدٍ بالماءِ في نَهَرِ ال- معنى، فما أَضْرَبُوا عن موعدٍ ضَرَبُوا *** إيهٍ أبا يوسفٍ.. والأمسُ مجمرةٌ من الرمادِ، أراها اليومَ تلتهبُ ليتَ الأَسِنَّةَ في أجسادِنا نَشَبَتْ ولا الأَحِبَّةَ في أرواحِنا نَشَبوا كم وَحَّدَ الليلُ شملاً من مباهجِنا ومن نشيدِكَ سالَتْ حولنا شُّهُبُ في سهرةٍ آذَنَتْ بالأُنْسِ، فانْتَصَبَتْ على الجماجمِ - من ضِحْكاَتِنا- قُبَبُ وظالما رَفَّ طيرٌ من تثاؤبِنا وحام عبر المدى ينأى ويقتربُ واسَّاقَطَتْ في الدُّجَى أهدابُنا سَهَراً وظَلَّ ينمو على أجفانِنا هَدَبُ فافتحْ قناني المُنَى واسكبْ لنا وَطَناً ملءَ الكؤوسِ.. إذا الأوطانُ تنسكبُ! *** إيهٍ أبا يوسفٍ.. والأمسُ غَلَّقَهُ كفُّ الغيابِ لكي لا يخرجَ العَتَبُ تَرَبَّصَتْ بِكَ أفعَى في مكامنِها وقد تَعَتَّقَ فيها السمُّ والعَطَبُ فلم تزلْ تحتمي منها بأغنيةٍ نشوى، ويختلطُ الترياقُ والطَرَبُ! عُذْرَ القبيلةِ إنْ خانَتْ برائدِها حتَّى بكى في القلوبِ الماءُ والعُشُبُ ها أنتَ تعويذةٌ نحمي البيانَ بها إذا استشاطَ عليهِ الخوفُ والرَّهَبُ! *** إيهٍ أبا يوسفٍ.. لا زَلَّ عن شفتي اسمٌ على صفحاتِ الريحِ يَنْكَتِبُ عظمُ البيانِ رميمٌ وَسْطَ هيكلِهِ فلا القصائدُ تُحْيِيهِ، ولا الخُطَبُ تَعَنَّبَتْ شَفَةُ الذكرى ونادمَني حزني عليكَ ودارَتْ بيننا النُّخَبُ واجتاحني الوجدُ حتَّى نشوتي فإذا زجاجتي في يدي تبكي وتضطربُ بيني وبينكَ موسيقا مؤجَّلةٌ بِتْنَا نداعبُ ضَرْعَيْهَا ونحتلبُ هنا تَنَفَّسْتَ في التاريخِ فانْحَفَرَتْ في هيكلِ الوقتِ من أنفاسِكَ، النُّدَبُ عُمْرٌ كعُمْرِ الغضا دفئاً وعاطفةً تكادُ كلُّ الثواني فيهِ تُحْتَطَبُ *** لَكَ النبوءةُ سالَتْ من ذُرَى جَبَلٍ عالٍ على جنباتِ الروحِ ينتصبُ يا طالما زَمَّلَتْكَ الضَّادُ مرتعشاً في حضرة الوحيِ وانْفَضَّتْ لَكَ الحُجُبُ سهران ترصدُ للمعنَى.. تُخَاتِلُهُ.. تدنو إليهِ قليلاً.. ثمَّ تنسحبُ... ترمي بحُلْمٍ.. ولكنْ كلَّما انكشَفَتْ لَكَ الحقيقةُ، غَطَّاها دَمٌ كَذِبُ ما خانك الصيدُ في طيرٍ تطاردُهُ حتَّى المشيئةِ، لكن خانَكَ الهربُ طيرٌ هناكَ وراء الأُفْقِ مُلْتَبِسٌ بالمستحيلِ فما ينفكُّ يحتجبُ واليومَ حيث تَجَلَّتْ عن حقيقتِها نارُ الحدوثِ وأمسَى ينضجُ السَّبَبُ اليومَ أَمْسَكْتَ بالمعنَى وطائرِهِ وانطشَّ فوق يديكَ الريشُ والزَّغَبُ كَفَاكَ في الموتِ سرٌّ أنتَ كاشفُهُ فاهنأْ بكَشْفِكَ واستمتعْ بما يَهَبُ