الكره والرغبة بالانشقاق واستسهال الغضب والاستسلام للانتقام والتشفِّي، جميعها مشاعر باتت خانقة وهي تحوم حولنا بذبذباتها، وكأن العرب فقدوا القدرة على الحب، على العموم، الناس القادرون على الحب هم عادة القلة، وهو ما يبرر تفاقم شقاء الإنسان، والمفارقة أن هذا الشقي غير المحب يريد أن يكون محِباً ومحبوباً! فهل يعي الناس ماذا يقولون ويصنعون؟ هم يريدون الحب والتبجيل والإحساس بقيمتهم، حسناً، فماذا قدموا لهذا الشيء؟ فسلوكهم يخالف رغباتهم، فهل هم واعون إلى حقيقة أن أمنياتهم وأفعالهم متناقضة؟ يدمرون الحب وكل إمكانية له، فيصيبهم البؤس، فيلومون القدر ولا يصارحون أنفسهم بصدق، فأين اليقظة؟ إذا كنت لا تصغي إلى تغريد العصفور وتعتبره مسلماً به في زحمة فواتيرك وهموم عيشك، إذا كنت لا تسمع صوت الريح تحرك الأشجار، وأنت في طريقك إلى عملك وتوصيل أبنائك إلى المدرسة، إذا كنت لا تستدعي شكل السماء ولونها، وأنت تختار ملابسك الزرقاء بخطوطها البيضاء، إذا كنت كل هذا وأكثر وأكثر، فمعناه أن الغناء لا يعنيك، والموسيقى لا تعنيك، والسماء هي سماء، فما الذي يعنيك بالضبط؟ أن تجمع المال؟ ولم؟ لتتباهى ببيتك وسيارتك ومركزك الاجتماعي، فماذا بعد الشعور بالأمان المادي -هذا إن حصل- والتفاخر بمادياتك؟ هل تعتبره نجاحاً؟ هو جزء منه وسرعان ما تتعود عليه وتأكلك دوامته التي لا تقف عند حد. النجاح بلا حب دلالة فارغة، وهنا تصبح نموذجاً لكامل حياة المرء، فمن الخارج تنظر إلى الإنسان وتشير إليه بالنجاح، ومن الداخل هو روح متعبة لا تدري ما سبب تعبها. الحب لا يمكن أن يكون واجباً وإلا فقد معناه وبات مصطنعاً وتافهاً ولا قيمة له، وأكيد هذا الكلام إنما يعني الإنسان الصادق مع نفسه والناضج بمشاعره، أمّا السخيف السطحي فما عليه سوى أن تظهر له حبك ولو رياء وتزلّفاً، حتى تعلّمنا أن نحب لننجو ولا نشعر بالذنب، استمرأنا أن الحب أمر ولابد من إنجازه، فنستمر في القيام به، ولهذا لا نشعر بإيجابيات الحب، ولهذا لم نفهم كيف نحب. الحب يمتلك الطرفين، الرجل والمرأة، والمدير والموظف، والقائد والمواطن، ولكن لا أحد جاهز لذلك، وهكذا يختصر الرجل امرأته في سلعة أو أداة لغرضه، وكذا تفعل المرأة، فتتحدد الأدوار! الرجل للاستغلال الاقتصادي، والمرأة للجنسي وتبعاته من إنجاب وتربية، فيكون الرجل ودوداً جداً عند حاجته، وتكون المرأة ودودة أكثر عند يوم الدفع، وكلاهما يعلم أنه استخدم وهذا سبب معاناتهما، وكذلك الأمر مع المدير وموظفه، وكذلك الأمر مع الحاكم ومواطنيه، فلا تقنعني أن حاكماً أحب شعبه وترجم حبه لهذا الشعب، ولم يبادله الشعب حباً بحب، بل وسيقبل منه الشدة وقت الشدة، والحزم وقت الحزم، لأن الثقة بالإنسان فيه أكبر من الشك في نواياه. ليكن الحب وتكن الرحمة من سجاياك، لا لغرض بعينه ولكن بوجه عام، لا لشخص بعينه ولكن للوجود كله، فأنت حين تحصر حبك في علاقة فرد أو أفراد محدّدين، فمعناه أنك ستهمل ما عداهم في الوجود وتستبعده من دائرة اهتمامك، وهذه العملية فيها مساومة خطيرة وفقيرة في آن، اختيار واحد وإلغاء بقية الكل، في الوقت الذي أنت بحكم كونك إنساناً، إنما تنتمي إلى هذا الكل وهو بدوره ينتمي إليك أيضاً، فيمطرك الوجود بحبه، وأنت عنه لاه. منتهى نكران الجميل. كيف يكون المرء متديّناً وجافاً في نفس الوقت؟ والله لا يجتمعان، فالحب هو ما يجعل المرء متديّناً بحق، أمّا الغلظة والجرأة في اختيار العنف فلا علاقة لهما بالدين البتّة، حتى صارت فكرتنا عن الدين حزناً وتجهماً، وبدا لنا وكأن الحب وابتسام القلب لا يناسباننا، ولا أقول سوى إن الحب إنما يحتاج إلى الشجاعة الأكبر في دنيانا، لأن في الحب إذابة للأنا داخلنا، وتقييداً لأنانيتها، ولأننا مستعدون للتشبث بالأنا وفداها حتى الموت، فلا تجدنا جادين فعلاً في الحب، نحكي عنه جائز، نصعِّده بأشعارنا ورواياتنا وأغانينا ممكن، لكن نعرفه ونطبقه ونكون عند مستوى تحدياته، فنحن أفقر من هذا الوعي بكثير. كاتبة سعودية [email protected]