سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مدير جامعة سابق وكاتب سعودي يقول : التوجس المبالغ فيه أفرغ الجامعات من النشاطات الفكرية والثقافية . العيسى : قرار إصلاح النظام التعليمي لا يزال مختطفاً فكرياً وإدارياً !
{ الدكتور أحمد العيسى.. لا يعمر كثيراً في منصب، لأنه صاحب رأي حر ومستقل! هامَةٌ كبيرة في التعليم بكل مساراته وله تجاربه التي تجعلك تقف ملياً أمامه شخصه وبنانه.. يتسلم منصب مدير جامعة بالنهار ويكتب نص مسرحية في الليل، ينتمي إلى منظومة إدارية ولكنه لا يمتنع عن نقدها في مقالة أو في محاضرة. كلما خرجَ كتاب له توجَّسَ بعض المسؤولين شراً وفقدوا البوصلة معه وتناسوا أنه يمنحهم خريطة طريق للنجاح وللإصلاح. فهو يرى أن"النظام التعليمي إلى اليوم وعلى رغم كل محاولات الإصلاح والتقويم والتطوير لم يتقدم قيد أنملة في إعادة صياغة توجهات وقدرات وإمكانات الجيل الجديد، ولا يزال ينتج أجيالاً لديها من المعوقات العقلية والمهارية التي لا يجعلها قادرة على النجاح في الحياة، والمنافسة في العمل والإنتاج"... فإلى تفاصيل الحوار: مرحلة جامعة اليمامة.. هل انتهت بخير أم بحسرة؟ - بل انتهت بخير - ولله الحمد - لقد حققت في ثمانية أعوام ما كنت أصبو إليه، وما كنت أستطيع أن أقدمه. لقد شاركت في تأسيس صرح علمي نشأ في ظل ظروف صعبة، وإمكانات محدودة، فلم يكن لهذا المشروع من شخصية اعتبارية عامة تسنده، وتستطيع أن تفتح له بعض الأبواب المغلقة، أو تقف في وجه من يتجاوز الحدود. ولكن بتوفيق من الله تعالى، ثم بدعم مؤسسي الجامعة، وبمشاركتهم الخلّاقة، وتضحياتهم الجليلة، وبالصبر والتركيز على المهم، تغلبنا على كثير من العقبات، وتجاوزنا بعض المثبطات. وأحسب أن جامعة اليمامة تتمتع اليوم بمكانة جيدة بين مؤسسات التعليم العالي الأهلي. وقد كانت رائدة في بعض النشاطات، واستطاعت أن تمنح طلابها سمة وهوية خاصة. البعض قال في فترة من الفترات، إن"اليمامة"كانت تغرد خارج السرب، ولهذا أراد البعض أن يعيدها إلى السرب لتغرد من الداخل. لماذا تصاحب الشائعات خروجك من مناصبك؟ - لأنه لم يكن خروجاً اعتيادياً، فقد كنت ? وما زلت ? صاحب مبدأ ورأي، والبيئة الإدارية لدينا تركبت في ظل ثقافة تتمحور السلطة فيها حول الشخص"المسؤول"، وليس حول الأهداف والإنجازات، ولهذا ينجح فيها من يراعي، ويداري، ويداهن أكثر من الشخص الذي يكون له موقف، ورأي. ما فلسفتك مع الكرسي، وما أطول مدة تراها للجلوس عليه؟ - أنا أرى أن الكرسي يقيد صاحبه، وهذا القيد يضيق شيئاً فشيئاً كلما كان صاحبه متوجساً وخائفاً من أن يفقده. ولكن ليست كل القيود سواء. فهناك كرسي خفيف الظل، وهناك كرسي"دمه"ثقيل. الشأن العام والمستشارين التعامل مع الشأن العام والرأي العام، هل تلزمه أدوات معينة؟ - لا شك أن التعامل مع الشأن العام يحتاج إلى ثقافة وحصافة، خصوصاً في مجتمعنا الذي تكثر فيه الشائعات والأقاويل، ولذلك يجبن البعض أن يقول كلمة حق إما خوفاً من ردود الفعل، وإما إرضاء لصديق أو قريب، وإما خشية من أن يتأثر موقعه الاجتماعي أو الوظيفي. لدينا عقول مفكرة، يرون الأمور بشكل سليم ويستخدمون العقل، ولكن النتائج ليست كما نتوخى أهناك مشكلة في التطبيق أم أن الأهداف الخاصة دائماً تسابق الهدف العام؟ - لدينا مشكلة مركبة في الإدارة الحكومية بالذات، فاختيار المسؤولين لا يتم بحسب الكفاءة والخبرة، وإنما بحسب العلاقات الشخصية وبحسب الشهادة. ونحن نعرف أن الشهادة مهما علت لا تعني أن صاحبها أصبح إدارياً ناجحاً أو أن لديه عقلاً مفكراً، أو أنه أصبح شخصاً قادراً على إيجاد الحلول. ونتيجة لذلك تجد أن النتائج على أرض الواقع ضعيفة ومرتبكة، في حين لا يجد المسؤول سوى المبررات، أو إطلاق الوعود. ماذا عن المستشارين؟ - ما ينطبق على اختيار المسؤول، ينطبق أيضاً على اختيار المستشار، إذ تسبق العلاقات الشخصية معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة. وفي أحيان كثيرة يكون تحويل المسؤول إلى مستشار هو خطوة"محترمة"للإبعاد وليس التكريم. نطالب بمؤسسات مجتمع مدني، وحين يوافق عليها تفشل في أدائها.. أين الخلل؟ - الحقيقة أن مفهوم"مجتمع مدني"لا يزال غامضاً عند الدولة وعند المجتمع على حد سواء. لا تنسَ أن قانون الجمعيات الأهلية الذي نوقش طويلاً في مجلس الشورى لم يقر حتى الآن، وما يوجد لدى وزارة الشؤون الاجتماعية لا يتجاوز المؤسسات الخيرية. لذا فإن المطلوب إصدار نظام جديد لمؤسسات المجتمع المدني، يتيح فرصة للفعاليات النشطة في المجتمع لخدمته في المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية كافة. الحوار الوطني، هل هو الكذبة التي لم يصدقها أحد؟ - الحوار هو ثقافة قبل أن يكون وسيلة للقاءات واجتماعات. وما نحتاجه اليوم - في رأيي - هو تأسيس لثقافة الحوار لدى الأجيال الشابة والناشئة من خلال مؤسسات التعليم ومؤسسات الإعلام، أما جيلنا نحن فقد"راحت عليه"، لقد تشرب ثقافة التسلط والإقصاء، ومن الصعب تغيير تلك الثقافة. ولهذا يمكن تدارك هذه المعضلة عند أبنائنا فنجعلهم أكثر تقبلاً للرأي والرأي الآخر، وأكثر قدرة على إدارة الحوار حول القضايا وليس حول الأشخاص. نحن بحاجة إلى أن تكبر عقول أبنائنا فيركزون في الحوار على مناقشة الأفكار وليس الحديث عن الأشخاص والمقاصد والنيات. ألم تقرأ ما قالته السيدة الأميركية الأولى في منتصف القرن الماضي إيلينور روزيفلت:"العقول العظيمة تناقش الأفكار، العقول المتوسطة تناقش الحوادث، أما العقول الصغيرة فهي تناقش الشخصيات". الإسلاميون ودفة المجتمع الإسلاميون تسلموا دفة المجتمع السعودي أكثر من ثلاثة عقود، لو أتيح لليبراليين المدة نفسها، ما الذي سيتغير؟ - إذا كنت تقصد التيار الديني المتشدد، فلا أعتقد أنه تسلم دفة المجتمع لثلاثة عقود. صحيح أن صوته كان صاخباً ومعيقاً في قرارات سياسية كثيرة، ولكنه لم يتسلم دفة المجتمع، والشاهد أننا نرى أن التطور في وعي المجتمع وفي خياراته لم يتوقف بل يستمر إلى الأمام. لقد رفض ذلك التيار تعليم المرأة، ولكن بعض أفراد المجتمع بدأوا تعليم بناتهم قبل القرار الرسمي، وأقبل عليه المجتمع زرافات ووحداناً بعد القرار. وقد رفض ذلك التيار وسائل الإعلام الحديثة مثل التلفزيون والإنترنت، وأقبل عليها أفراد المجتمع حتى في أكثر فترات الصخب الإسلامي علواً في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية. وعندما يقف شخص ما أو مجموعة أشخاص ليقول إن استخدام كاميرا الجوال حرام، وإن مضارها كبيرة، ويطالب بمنع الهواتف التي تحمل هذه الكاميرا"الخبيثة"، فإن المجتمع يمضي في مسيرته ويعتبر أن استخدام هذه الكاميرا مثله مثل أي وسيلة أخرى قد تؤدي إلى الخير وقد تؤدي إلى الشر، والخيار لمستخدم هذه التقنية. وعندما يقف هذا التيار اليوم ضد مطالب أن تقود المرأة السيارة، فإنه يقف ضد حركة التطور الطبيعي للحياة، وسنجد هؤلاء الممانعين يوماً ما في صالات بيع السيارات يبحثون عن آخر موديلات السيارات ليشتروها لزوجاتهم وبناتهم. ولا أعتقد أيضاً أن التيار الليبرالي المتطرف يمكن له أن يتسلم دفة قيادة المجتمع السعودي لأن مجتمعنا مثل بقية المجتمعات الحية في العالم يميل دائماً إلى الوسط، وإلى التطور الطبيعي، على رغم كل الصخب الذي تجده يميناً ويساراً، وهذه حركة التاريخ. مفهوم التيارات هل نلمسه في مجتمعاتنا بوضوح؟ مفهوم التيارات موجود في كل مجتمع من مجتمعات البشر قديماً وحديثاً. وهو موجود بوضوح وبصخب في مجتمعنا لأن تيار الوسط الذي يوصف دائماً بأنه تيار الغالبية الصامتة، لا يملك مشروعاً واضحاً ليجيب ويحسم القضايا الحساسة في المجتمع، وهذا ما حاولت أن أعبر عنه من خلال نص مسرحية"وسطي بلا وسطية"التي حظيت بشهرة واسعة ليس لمحتواها الفني والفكري مع الأسف، ولكن بسبب أحداث الشغب الذي صاحبتها. ومن الغريب أن رجال الأعمال التكنوقراط والإداريين البارزين ومعظم الأكاديميين وغيرهم يمثلون تيار الوسطية، ويتبنون خط الوسطية، ولكنهم لا يطرحون مشروعاً متماسكاً لقيادة المجتمع، وإنما يكتفون أحياناً بالصمت وبالاعتماد على عامل الوقت لحسم الأمور، أو أنهم يعملون وفق مبدأ ردود الأفعال فتجد أن الأحداث تربك حركتهم وتجبرهم على الانحناء أحياناً أمام العواصف. ولكن هناك من يعتقد أن الدولة بتركيبتها وتاريخها وجذورها تعود إلى فكر ديني متشدد، وبذلك هي لا تستطيع إلا أن تنحاز إلى التيار الديني، خصوصاً في اللحظات العصيبة؟ - أعتقد أن هناك من يروج لهذه المقولة ويريد أن نصدقها هكذا من دون تحليل أو مناقشة. وفي تقديري أن الدولة السعودية الحديثة لم تكن قابلة للحياة والاستمرار لو أنها تبنت خطاً دينياً متشدداً كما كانت الحال في الدولة السعودية الأولى. لقد ارتفع الملك عبدالعزيز ? رحمه الله - بمشروع الوحدة والدولة على كل عوائق توحيد البلاد مثل الانقسامات القبلية والطائفية والمناطقية، فقبل الناس مشروعه، كما ارتفع على كل مقومات الاصطدام بالخارج، فقبلت الدول الكبرى مشروعه واعترفت به ودعمته. كما ارتفعت قيادات الدولة بعد الملك عبدالعزيز على كل أبجديات الحكم التقليدي، فأقاموا المؤسسات السياسية والاقتصادية والإدارية، واحترموا قراراتها، وعززوا من سلطة القضاء، وارتفعوا عن المماحكات الفكرية، وتمسكوا بمنهج الوسطية مهما كانت الضغوط الداخلية والخارجية. التغيير وخصوصيتنا في ظل هذا الطرح يتساءل البعض"لماذا لم تمر رياح التغيير التي تعصف بالعالم العربي اليوم بهذه الديار؟ - لقد عزا البعض عدم نجاح الدعوة للمظاهرات في السعودية، إلى سببين: الأول إلى قوة التيار الديني السعودي التقليدي الذي وقف ضدها منذ البداية والذي يرفضها من حيث المبدأ، والسبب الآخر هو القوة الأمنية التي تتصف بها الدولة، خصوصاً بعدما حسمت وبسرعة معركة الإرهاب. ومن غير تقليل من أهمية تأثير هذين العاملين، إلا أنني أرى أن هناك عاملاً آخر أكبر تأثيراً ألا وهو الاقتناع الضمني لدى الغالبية العظمى من شعب المملكة بأن مشروع الوحدة والدولة الذي أقامه الملك عبدالعزيز يحمل في داخله وفي ثناياه كل مقومات الحرية والعدالة والكرامة التي تنادي بها الشعوب العربية، فالنظام السعودي لم يكن يوماً ما تسلطياً استبدادياً. وعلى رغم وجود مظاهر للفساد في الدولة والمجتمع، وعلى رغم تعثر بعض مشاريع التنمية لضعف الإدارة الحكومية، إلا أن الغالبية مقتنعة بأن الإصلاح لا يمكن أن يأتي من خارج الدولة، ومن خارج المؤسسات. ولكن لا بد أن نتنبه إلى أنه وإن كان مشروع الوحدة تحقق، إلا أن مشروع الدولة لم يكتمل بعد، ونحتاج فعلاً إلى خطوة إصلاحية أخرى لتطوير مؤسسات الدولة لكي تكون أكثر استجابة لتطلعات الناس، وأكثر قدرة على استيعاب طموحاتهم، وأكثر فعالية في إدارة أمورهم، وأكثر حسماً وعزماً في محاربة الفساد والظلم والانتهاكات. تعاملنا مع قضايا الإرهاب من خلال المحاكمات والعقوبات هل حدَّ من الإرهاب.. أم زاد من سخط فئات من المجتمع علينا؟ - لا شك أن الدولة نجحت كثيراً في البعد الأمني وقضت تماماً على خطر الإرهاب المسلح، وما بقي من إجراءات لتصفية هذا الموضوع تبقى في إطارها الطبيعي. ولكن الإرهاب الفكري لا يزال موجوداً بطريقة أو بأخرى، ولا يزال هناك من يؤمن بأن على المجتمع أن يخضع لآرائه وأفكاره واختياراته، حتى لو كانت غير مقنعة لأقرب الناس إليه. ولا يمكن مواجهة هذا الفكر بالأسلوب نفسه، فنطالب بإقصاء وتهميش هذه الآراء. وأحسب أننا يجب أن نطرح مشروعنا الوسطي بكل وضوح مهما كانت العقبات، وأن نصبر على الفكر المتطرف لأنه يقتات على الأزمات، ويرتفع صوته وقت الملمات، ولكنه يضعف عندما تتحسن الأمور، وترتفع وتيرة الإصلاحات، وتجري المياه في مسارها الطبيعي. تظهر على وجوه الناس الآن آثار اغتراب نفسي وعبثي واجتماعي، لماذا؟ - أعتقد أننا بحاجة إلى جهد ثقافي وفكري عميق ومتنوع بحيث نعطي للحياة معنى وقيمة، ونعيد من خلاله قيم الاحتفاء بالحياة من دون تعقيد أو تكلف أو مبالغة، كما نعيد الهدوء والسكينة والاطمئنان إلى الناس. فنحن نعيش بالمقاييس المادية بكل ما يحلم به البشر في أي زمان أو مكان، فالبلد فيها نعم كثيرة، وخير عميم، ونعيش في استقرار وأمن، ونعيش ونحن نستخدم أحدث مستجدات التقنية، فلم إذاً هذا القلق، ولمَ هذا التشاحن، ولمَ هذا التسابق نحو المظاهر الزائفة. لقد اكتفينا من قيمنا الدينية بالمظاهر، وتعلمنا أحكام الحلال والحرام، ولكننا لم نعتنِ بشكل كافٍ بقيم الحب والرضا والقناعة والتسامح والصلة والعفو والإيثار والشهامة والنبل وكل ما هو جميل في ديننا وقيمنا العربية الأصيلة. لماذا النظام التعليمي العام في السعودية"متخلف"ولم ينتج أجيالاً قادرة على مواجهة التحديات؟ - بالنسبة إلي، لقد نكأت بهذا السؤال الجرح الذي لم يندمل. لقد اعتبرت واعتبر كثيرون أن مستقبلنا ومستقبل أجيالنا يبدأ من المدرسة، ومن التعليم. ولئن كانت الأسرة السعودية لا تزال تحتفظ ببعض التماسك، إلا أن رياح التغيير أثرت في قدرتها على التعامل مع الأجيال الجديدة، ولم يبقَ لنا إلا مؤسسات التعليم التي تستطيع أن تحقق الأثر الكبير والمنشود في إنتاج جيل قادر على مواجهة التحديات على مختلف أنواعها. والنظام التعليمي إلى اليوم وعلى رغم كل محاولات الإصلاح والتقويم والتطوير لم يتقدم قيد أنملة في إعادة صياغة توجهات وقدرات وإمكانات الجيل الجديد، ولا يزال ينتج أجيالاً لديها من المعوقات العقلية والمهارية التي لا يجعلها قادرة على النجاح في الحياة، والمنافسة في العمل والإنتاج. وما نراه اليوم من طاقات وأفكار مبدعة عند بعض الشباب من الجنسين، فإن اكتسابها لم يكن من مناهج التعليم المحلية أو من خلال ما يدور في المدارس من نشاطات، وإنما اكتسبوها بجهد ذاتي، ومن الاحتكاك بالعالم الخارجي سواء أكان ذلك من خلال السفر أو الدراسة في الخارج، أو من خلال التعامل مع التقنيات ووسائل الاتصال الحديثة. لقد قلتُ في أحاديث جانبية إن الوقت ليس في مصلحتنا، فكلما تأخرت مشاريع إصلاح التعليم كبرت الفجوة واتسعت الهوة وتشعبت المشكلات. ونحن نعرف أن أي مشروع حقيقي لانتشال التعليم من موقعه الحالي لن تظهر نتائجه على الفور وإنما تحتاج إلى سنوات. ولكن المهم أن نبدأ بداية صحيحة، وأن تكون لدينا خريطة طريق حقيقية لتغيير فلسفة التعليم ونوعيته وممارساته. قلت في محاضرة لك:"التعليم في السعودية"اختطف وما زال مُختطفاً".. على من نقيم حد الحرابة هنا؟ - لا يزال قرار إصلاح النظام التعليمي مختطفاً، سواء أكان ذلك على المستوى الفكري، وهذا واضح في هذه الأيام من خلال الهجمة الشرسة التي يواجهها وزير التربية والتعليم من بعض المتشددين، مستخدمين قضايا هامشية، ولكن مقصدهم أعمق من الاحتجاج على"اختلاط عارض"بين الوزير وبعض مسؤولات الوزارة، أو طالباتها، واعتبروه اختلاطاً محرماً وتعدياً على سياسة التعليم، أو الاحتجاج على السماح لبعض المدارس الأهلية بتوفير نشاطات رياضية للبنات. إن مقصدهم أعمق من ذلك وهو التأثير في كل محاولات وضع القرار التعليمي في مسار المهنية والموضوعية والعقلانية بعيداً عن كل الشعارات التي ألِفوها. كما أن القرار التعليمي لا يزال مختطفاً فكرياً وإدارياً عندما تلجأ وزارة التربية والتعليم بكل ما تملك من خبرات ومجالس وإدارات، إلى أعلى سلطة تنفيذية لاتخاذ قرار صغير مثل تدريس مادة اللغة الإنكليزية في الصف الرابع الابتدائي، أو إصدار التقويم الدراسي في كل عام. والقرار التعليمي لا يزال مختطفاً عندما تحدد وزارة الخدمة المدنية مثلاً، ونيابة عن وزارة التربية والتعليم في من يشمله قرار تثبيت المعلمين والمعلمات. أو عندما تقرر وزارة المالية المواصفات التي يجب أن تطبق في المنشآت التعليمية، وهكذا. كيف نتمكن من الانطلاق إلى العالمية عبر الانفتاح الثقافي والعلمي والتكيف مع المتغيرات السريعة التي تحدث من حولنا؟ - لا نستطيع أن ننطلق نحو العالمية إلا بالعقول المبدعة، والتفكير الحر، وبالبحث العلمي المستند إلى مهنية عالية ومعايير عالمية. قد يعتقد البعض أننا نتحدث عن البحث العلمي في المجالات التقنية والهندسية والطبية فحسب، ولكننا نتحدث أيضاً عن البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية والإدارية، والتنموية بشكل عام. هذا البحث يستطيع أن يبين لنا الخلل، ويناقش المعطيات بكل موضوعية وحيادية، ويقترح الحلول بكل شفافية ووضوح. ومن دون هذه العقلية المنفتحة المتواضعة المتقبلة للنتائج بكل أريحية وتسامح، لن نستطيع أن ننتقل إلى العالمية. انظر على سبيل المثال إلى المجال الرياضي في المملكة، فعلى رغم الاهتمام الرسمي والشعبي، وعلى رغم الإمكانات المادية، إلا أن النتائج تسير إلى الوراء، من حيث الإنجازات العالمية، ومن حيث قدرة المؤسسات الرياضية على تقديم بديل مناسب للشباب من الاستراحات والمقاهي والشوارع، ومن حيث تراكم المشكلات بما فيها التعصب والاتهامات والخسائر وغيرها. لماذا لأن النقد الموضوعي والبحث العلمي معدوم تقريباً في هذا المجال كغيره من المجالات. وقد تأنَف جامعاتنا، ويأنف أعضاء هيئة التدريس فيها من الحديث عن المشكلات والتشوهات في هذا المجال، وتلك هي الحال في معظم المجالات. لك كتابان عن التعليم العام والتعليم العالي، كيف كان صدى استقبالهما من الوسط الرسمي والشعبي عليك؟ - لقد لقي الكتاب الأول عن إصلاح التعليم - ولله الحمد - أصداء واسعة وإيجابية على المستويات كافة. أما الكتاب الثاني فكان الاحتفاء به أقل. وأعتقد أن سبب ذلك هو أن صدور الكتاب الأول جاء في وقت مناسب، فالناس قد وصل بهم اليأس من إصلاح نظام التعليم العام مبلغاً، وجاء صدور الكتاب أيضاً متزامناً مع تشكيل فريق إداري جديد في وزارة التربية والتعليم، ورأى البعض أن هذا التغيير يحمل أملاً، وأن طرح الكتاب قد يحمل منهجاً. أما الكتاب الثاني فقد جاء في وقت كانت الإشادة فيه كبيرة بالتطورات الإيجابية التي تحدث على مستوى التوسع في الجامعات الحكومية، أو على مستوى الحراك التطويري في الجامعات. لذا لم يحفل البعض بجوانب النقد لنظام التعليم العالي. وأحسب أني أشرت إلى هذه الحقيقة في مقدمة الكتاب. جامعاتنا نسخ مكررة لقد أشرت في كتابك الثاني إلى أن جامعاتنا مجرد"نسخة من بعضها"، وطالبت باستقلالية الجامعات، وانتقدت النظام الحالي لمجلس التعليم العالي والجامعات، فكيف يمكن تطوير هذا النظام وجعله أكثر استجابة لتحديات المرحلة المقبلة؟ - لقد فصل نظام مجلس التعليم العالي والجامعات الذي صدر عام 1414ه على مقاس رجل واحد، فهو يرأس فعلياً مجلس التعليم العالي بصفته نائباً للرئيس، وهو يرأس مجالس كل جامعة سعودية، وإليه تحتكم كل الجامعات والكليات الأهلية. وأنا أعرف أن الدكتور خالد العنقري الذي أحترمه وأقدره، يتمتع بقدرات قيادية وإدارية عالية المستوى، وهو يحاول قدر الإمكان عدم استخدام كل صلاحياته التي منحها له النظام، إلا أنه من المعيب أن يستمر النظام هكذا، ويُمنح شخص واحد مهما علت قدراته كلَّ هذه الصلاحيات. ولا أعرف في كل بلاد الدنيا أن هناك نظاماً للجامعات يمنح شخص الوزير كل هذه المسؤوليات. من جانب آخر، فقد ربط النظام الجامعات بمجموعة كبيرة من اللوائح الموحدة التي يجب على الجميع أن يطبقها كلائحة الدراسة والاختبارات، ولوائح أعضاء هيئة التدريس، ولائحة الدراسات العليا وغيرها، وهذا بلا شك أدى إلى أن تكون الجامعات نسخة من بعضها بعضاً، وهذا التوحيد قد يصلح في أي شيء آخر، إلا في مؤسسات التعليم العالي التي تطورت في بلاد أخرى بسبب التنافس والإبداع والانطلاق نحو طرق وأفكار وبرامج مختلفة. لقد عرفنا الجامعات كمؤسسات للتعليم العالي من الغرب، ولهذا قلدنا الأعراف والمعايير الأكاديمية في المناهج والخطط الدراسية والتقويم والشهادات واختيار أعضاء هيئة التدريس وفي درجاتهم ومستوياتهم، وكذلك في شكل وهيئة المجالس الأكاديمية، فلماذا عندما تأتي المسألة للإدارة والسلطة الأكاديمية، لا نقلد الغرب الذي منح الجامعات استقلالية مالية وإدارية وترك شؤونها لمجالس أمنائها ومجالسها الأكاديمية الأخرى. من جانب آخر، لم يكتفِ هذا"الفيروس"الذي أراد أن يوحد الجامعات في الأنظمة واللوائح والممارسات عند هذا الحد، ولكن هذا الفيروس أراد أن يوحد الجامعات في نوعية التخصصات العلمية والشهادات الجامعية، فأقحمت الجامعات المتخصصة في تخصصات جديدة لا تمتلك القاعدة المعرفية والثقافة الأكاديمية فيها كما نشاهد في الجامعات الشرعية التي أصبحت تدرس اليوم علوم الطب والحاسب الآلي والإدارة وغيرها، ما ضيع هويتها وشخصيتها ورسالتها التي أنشئت من أجلها. لماذا نجد"الطلاق البائن"بين الجامعة وتيارات الفكر والثقافة في المجتمع؟ - كان هناك توجس مبالغ فيه في السابق من أن تتحول الجامعات إلى حلبة صراع سياسي وفكري في المجتمع، ولهذا جرى تفريغ الجامعات من النشاطات الفكرية والثقافية وتم التشديد على أن الجامعات هي للتدريس، وأن النشاط الوحيد هو المحاضرات والمؤتمرات العلمية. ولهذا نجد أن علاقة الطالب بالجامعة اليوم هي في محاضراته ودروسه وشهاداته، ووجود الطالب في جامعته إنما هو في وقت هذه الدروس. وأصبحت الجامعات وكأنها مؤسسات حكومية تتبع نظام الدوام الرسمي حين يغادر المسؤولين والموظفين في تمام الساعة الثانية ظهراً. وأعتقد أن الخواء الفكري والثقافي الذي نجده عند معظم خريجي الجامعات، وعدم قدرتهم على التعامل مع المتغيرات في الحياة، وفي سوق العمل هو نتاج هذا النهج الذي تتبعه الجامعات.