نشرت صحيفة IDEAL الإسبانية خبراً مفاده أن بلدية غرناطة دفعت لعجوز إسباني مبلغ 20332 يورو 105726 ريالاً تعويضاً بسبب انزلاق قدمه في حفرة صغيرة، نتج عنها بعض الرضوض البسيطة في جسمه. كم تأوهت عند قراءتي هذا الخبر! بسبب مقارنتي بين هذا الخبر وبين ما حصل للمئات من المواطنين من أضرار في أجسامهم ومركباتهم في شوارع مدينة جدة خلال أكثر من ربع قرن مضى. الطرقات تعدّ البنية الأساسية لقيام أي مجتمع مدني أو دولة. فهي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى المدرسة والجامعة والعمل، وإلا لتعطلت أعمال الناس، مثل ما حصل خلال وبعد هطول أمطار جدة الأخيرة. وعلى رغم أنه لم يبق كاتب في صحيفة محلية في المملكة إلا وكتب عن شوارع جدة، ولكن بقيت الحال كما هي عليه. بل وصل الأمر إلى أن حذر سماحة المفتي العام للمملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ في صحيفة"الحياة"يوم 5 - 3 - 2011، من أن بعض العقود الحكومية لا يتم إرساؤها إلا على جهات معينة لا يمكن تجاوزها لأنها تدفع رشوة. وأن الحكومة رصدت موازنات ضخمة لمشاريع لا تستحق هذه الموازنات الكبيرة، وأن هناك مشاريع كبيرة لم تمض عليها سوى مدة يسيرة تحتاج إلى ترميم، لأنها لم تنفذ بحسب المطلوب. وخير دليل على كلام سماحته إغلاق معظم أنفاق جدة خلال الأمطار الأخيرة، والانهيار الصخري الذي حصل على طريق الكر، ما أدى إلى إغلاقه. هذه المشاريع كلفت مئات الملايين من الريالات. من المعروف أن الإجراءات المتبعة عالمياً لترسية إنشاء أي مشروع يعتمد على العروض الأقل، ولكن ترسية المشروع على أقل العروض من دون الاهتمام بالنوعية الجيدة قد يؤدي إلى عدم اختيار العرض الأفضل، ما يؤثر سلباً في المواطن المستفيد من المشروع"لذا يحاول معظم أصحاب الشركات، الذين لا يخشون الله، التقليل من جودة المواد التي يجب عليهم وضعها في المشروع الذي يرغبون في إنشائه، وكلهم ثقة أن هناك بعض اللجان المسؤولة على ترسية أقل العروض المقدمة يمكن شراء ذممها ورشوتها. ولو أدى ذلك إلى التأخير في وقت تسليم المشروع، أو رداءة التنفيذ، أو عدم التقيد بالمواصفات والتصاميم المعتمدة، أو عدم الالتزام بالشروط المتفق عليها في العقد. هذا كله يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية للدولة. وهو ما حصل في الواقع. فقد بلغت الأموال التي دفعت للمتضررين من سيولجدة أضعافاً مضاعفة لقيمة أي مشروع كان سيشيد لتصريف مياه الأمطار. لهذا فإن نظام ترسية المشاريع المعمول به في المملكة، يحتاج إلى رقابة صارمة من المسؤولين. إذا كان الأمر كما تكلم سماحة المفتي آل الشيخ أن ترسية المشاريع على شركات بعينها تقوم على الفساد والرشوة، إذاً فليس هناك من داعٍ للجان فحص العروض، ولجان الشراء، ولجان التحليل الفني. ومادامت معظم المشاريع تحتكرها مثل تلك الشركات الكبرى، إذ يتم التوقيع مع تلك الشركات مباشرة من دون الرجوع لآليات طرح المشاريع للمناقصات الحكومية ونظام المشتريات. إن مشاريع الهدر على أعمال ترقيع شوارع جدة الرئيسة - وليس إعادة السفلتة - كلفت الدولة أكثر من 400 مليون ريال في السنوات الأربع الأخيرة. باستثناء ال"100"مليون ريال التي تسلمتها الأمانة الشهر الماضي لترقيع شوارع جدة، وعلى رغم ذلك لا يزال عدد الحفر في شوارع جدة الآن يقدر بأكثر من 60 ألف حفرة. لذا من المعتقد أن الرابح الوحيد من المشاريع الوهمية لسفلتة شوارع جدة هو الشركات الكبيرة، والخاسر الأكبر هو خزينة الدولة والمواطن. 30 عاماً مضت ومعظم شوارع جدة الفرعية لم يطلها تجديد السفلتة، على رغم كثرة الحفر التي تولدت نتيجة الأمطار ونتيجة للحفريات اليومية، التي تقوم بها شركات الكهرباء، والمجاري، والهاتف، وحفريات الأبنية الجديدة. وزاد عليها المطبات الصناعية، التي يضعها كل صاحب عمارة أو منزل أمام منزله، فقد أصبحت معلماً من معالم مدينة جدة، وسببت، وتسبب كل يوم أضراراً بالغة بالمركبات، ما جعل بعض الناس يضعون علامات لبعض تلك الحفر، بواسطة البراميل، أو إطارات السيارات المستعملة، أو الأعمدة الخشبية لتنبيه السائقين. ومن النادر رؤية أرصفة مشاة سليمة، وإن وجدت، فهي مليئة بمخلفات الأبنية والأتربة الناجمة عن الحفريات. أتساءل أحياناً: ألا يمر أحد من المسؤولين الكبار في هذه الشوارع؟ ولا أقصد هنا حارات وأزقة الأحياء الفقيرة، بل أرقى الأحياء. ولنأخذ على سبيل المثال حي الحمراء، ففيه مركز الجمجوم، ثاني أكبر مركز تسوق في العالم، مقابله شارع فرعي طوله 40 متراً، يحوي ست مطبات صناعية. وهبوط إسفلت بجزء منه بعرض متر، وبعمق 45 سم، و12 حفرة صغيرة بعمق يترواح بين 10 إلى 15 سم. إن وضع شوارع جدة أضحى مزرياً جداً، وباعتراف بعض المسؤولين بأن 90 في المئة من شوارعها أصبح تالفاً، فهناك الكثير منها متهالك يعاني من تصدع الأسفلت، ومعظم الشوارع الفرعية أصبح إما ترابياً، أو ذاب الأسفلت عنها، فبقيت على الأحجار الناتئة التي تتلف عجلات المركبات، ولم تطلها عملية ترقيع الأسفلت الأخيرة. بل إن ترقيع الشوارع الرئيسة بحد ذاته خطأ، لأن ارتفاع الرقعة يقارب تقريباً ارتفاع المطبات الصناعية. فيخيل لسائق المركبة وكأنه يسوق زورقاً في مياه البحر، لكثرة الارتفاعات والانخفاضات وميلان الأسفلت يمنة تارة ويسرة تارة أخرى، وبسبب انخفاض معظم أغطية الصرف الصحي عن مستوى الأسفلت. والكثير من الحفر يتسرب منها المياه الملوثة، وتشكل خطراً بيئياً، والكثير من الأمراض، أولها حمى الضنك التي تفردت بها مدينة جدة، بسبب تكاثر البعوض. والمواطن هو الوحيد الذي يدفع ضريبة نتائج فساد شركات المقاولات. * باحث في الشؤون الإسلامية.