لروح أمرية التي حلقت حولي ذات صباح لم أندم على صرختي المبتلّة بفقدي الغضّ في وجه مديرة المدرسة التي أجلّها، وكنت حينها أردد: لا أستطيع البقاء في هذه المدرسة.. لا أستطيع البقاء في هذه المدرسة. خيّم صمت وجل على غرفة الإدارة، وانخرطت في نوبة بكاء حادة. عندما خرجت من غرفة الإدارة الكئيبة رأيت كفيّ أمرية النحيلتين تمتدان عبر نافذة المقصف المكسورة، وتلوّح لي. بسرعة ركضت باتجاه غرفة المعلمات، وقبل أن أصل للغرفة، سمعت ضحكتها تصل إليّ عبر شقوق الحاجز الخشبي القديم الذي يفصل غرفة مستودع الكتب عن فصل الصف الثالث متوسط الذي ارتوى بعرق إخلاصها. توقفت برهة ثم غيّرت اتجاه خطواتي باتجاه الممر الآخر الذي يوصل إلى غرفة المعلمات. دخلت الغرفة. رأيت وجه تلك الظهيرة السوداء يخيّم على أسطح المكاتب المبعثرة، وشممت رائحة حزن نفّاثة. سحبت حقيبتي من الدرج، والتحفت عباءتي. وضعت طرحتي على وجهي. خرجت من بوابة المدرسة المنكوبة. وجدت عم"برعي "ينتظرني في الحافة. دخلتها وألقيت عليه التحية بصوت تسكنه الدموع، وضعت حقيبتي بجواري. جلست على المقعد الخلفي الذي يلي مقعده، وبدأت أمسح دموعي الساخنة. أتاني صوته المتشح بشوقه إلى أرض الكنانة. - مالك يا بنتي؟ - لا شيء يا عم برعي. - الله يصبّرك. كانت الزميلات ينمن في الحافلة الصغيرة أثناء رحلتنا اليومية باتجاه صباحات قرية تبعد عن مدينتنا مسافة خوف وقلق وصلوات أمهات، وأبقى مع أمرية مس تيقظتين في المقعد الأخير من الحافلة. أسكب لها فنجان قهوة جنوبية شقراء، ثم ارتشف قطرات من الماء البارد من زجاجة ماء معدنية. أفتح حقيبتي. أًَُخرج مرآتي الصغيرة. أتأكد من وجود أحمر شفاهي، وتتفحص أمرية كحل عينيها السوداويتين. نتحدث بهمس، وأنصت إلى أوجاعها. - الحمد لله. الآن أستطيع إعالة أمي وأخواتي وأطفالي. وبإذن الله سأشتري لنا بيتاً. - وماذا عن معيض؟ - سأطلب الطلاق منه. لقد عانيت من الحياة معه كثيراً. وتتوقف أحاديثنا، ونحن نرى الصبح يفتح بيديه الكبيرتين أجفان نوافذ منازل القرية الصغيرة. أفتح النافذة المجاورة لي، فينساب نسيم بارد يداعب غرة أمرية، ويحضر لي صوت مهند، ويمتد أمام أعيننا طريق طويل تطأه سيارات قليلة، وتنتثر على جانبيه لوحات زرقاء تغطي سيقانها أتربة داكنة. ثلاث سنوات ونحن نمر بهذا الطريق. أمرية سبقتني بعام. تشبعت أعيننا بوجد أشجار نخيله الظامئة. كثيراً ما اختلست النظر بإعجاب إلى إرادة أمرية، وكثيراً ما شممت عطر زهور الأمل بين مفردات حديثها معي. أسمعتني أمرية أصوات أرواح تصارع من أجل حياة كريمة، وكأنها تريد أن تهزّ أفنان الشكر لله في أعماقي. لم تشتكِ ظروفها يوماً ما، ولكنني رصدتها في عينيها. أمرية عذبة، رقيقة، لها صوت رخيم يطربني، فأطلب منها أن تغني. - أمرية غنِ. - ماذا تحبين؟ - غنِ"أنا يا بوي أنا". تغنيها وهي تشير إليّ. صوت أمرية في أذني، وفي لحظة الموت رنا إليّ طفلاها: أحمد وبلقيس. غاب الجميع عن الوعي، وبقيت مستيقظة، وكأن ذاكرتي رفضت إلا أن تعذبني بمشهد يشقي حياتي للأبد، وأحكيه بألم للآخرين. كان صوت الارتطام عالياً، رأيتهن جميعاً، وأنا معهن في مواجهة الموت، أياديهن المرتجفة، ومحاولاتهن اليائسة لفتح أبواب الحياة التي أوصدت ذات لحظة خاطفة. بعدها غابت ذاكرتي، وعادت في أروقة المستشفى، واصطدمت بغيبوبة الجوهرة، وكسور قدّ عزّة، ورحيل عم برعي وأمرية! أمرية رحلت! حدّقت بذهول في الملامح التي تحيط بي، التي لا أعرف معظمها. قلت بصوت باكٍ: لا.. لا ترحل أمرية. كنت أريد أن أقول لها بأن الغدَ أجمل. كنت أريد أن أخبرها بأن حركة النقل الخارجي لهذا العام ستشمل أكبر عدد من المعلمات البائسات. استعجلت أمرية بأعوامها الثمانية والعشرين الرحيل. لم تنتظر مراكب الفرح الآتية من جزر الله. استعجلت وكأنها رأت شيئاً أفزعها، وسكب في روحها اليأس والخوف، وجعلها تعجّل بالرحيل، وتلقي عليّ برداء حزن أبدي كما ألقت الحافلة بجسدها النحيل على ذاك الرصيف الشاحب، وبعثرت بعنف دفاتر طالباتها المملوءة بملصقات الورود، وتوم وجيري. لم تكمل لي حكايتها لي عن زوجة أبيها الغامضة، ولم تزخرف قدمي بالنقش العدني، ولم تفِ لي بوعدها لتعليمي دروس الرقص العدني. ياه.. لم تنتظر أمرية لأخبرها عن حبيبي مهند الذي يشبه ماجد المهندس الذي تحب شجن أغنياته. لم تنتظر لأسرّ لها برغبتي المجنونة في لقائه في فندق يطل على البحر الأحمر بصحبتها لتحميني من عاطفتي المتقدة، ومن أحضانه التي تشتاق لكبرياء جسدي. لم تنتظر لأخبرها عن الجمعية المالية التي سأتولى رئاستها لتدفع عربون البيت الذي أعجبها، ولم تمنحني دقيقة لأقول لها: إنني أحبها بصدق. يتعالى صوت أمرية تغني: أنا يا بوي أنا.. أنا يا بوي أنا. تتعالى صرخة فقد في صدري، تمتزج بغناء أمرية الذي يهز أغصان النخيل. تفتح صغار العصافير أعينها. تأل أمهاتها عن حزن صغار أمرية، وثكل أمها، ثم تدفن مناقيرها الصغيرة تحت أجنحة أمهاتها الدافئة. تغيب عني أسئلة العصافير، ووجه مهند، والأمنيات الرقراقة، وتظهر غرف بيت أم أمرية الصغير، المتشقق الجدران، ويظهر لي صدى قسمي أن لا أعود إلى ذلك المكان ثانية. تظهر لي في السماء من جديد، أمرية بجسدها النحيل ترتدي تنورتها السوداء، وبلوزتها السكرية المقلّمة. تنسدل على كتفيها خصلات من شعرها الأسود، وحولها فتيات جميلات، كأنهن أميرات أندلسيات بعمر طالبات الصف الثالث متوسط الذي كانت معلمته. يمتد صوت بكاء من أعماقي: أنا يا أمرية.. أنا أنا يا أمرية. أنا.