المتابع لما يضخه النظام الإعلامي الرسمي من توصيفات وتزويقات تطال مناطق التحركات الاحتجاجية في سورية، يخال نفسه أنه في قلب الصومال أو في جبال أفغانستان، وليس في سورية التي يتحكم فيها منذ عشرات السنين حزب البعث وعدد كبير من الأجهزة الأمنية شديدة السطوة، التي بحوزتها أرشيف معلوماتي ضخم، خصوصاً فيما يتعلق بتحركات القوى المتطرفة والتنظيمات الجهادية المسلحة وجذورها في المنطقة، حتى باتت مرجعاً بل صندوقاً أسود لتلك التنظيمات، أما في طول البلاد وعرضها فالحزب وتلك الأجهزة يتدخلون ويتداخلون في كل مفاصل الحياة بمؤسسات الدولة ومرافقها، والتغوّل عليها ليطال أتفه الأمور وأبسطها، فضلاً عن إحصاء أنفاس البشر ومتابعة تحركاتهم، وباعتقادنا أنه لا يمكن وجود سلاح صيد أو سواه لدى أي مواطن إلا بمعرفة تلك الأجهزة وعيونها أو مسؤولي ذلك الحزب. وفي حالة التسليم جدلاً بصحة تلك الروايات، ألا يحق لنا أن نتساءل من أين جاءت هذه العصابات هي وأسلحتها؟ ومن أي كوكب هبطت؟ ومن ساعد في انتشارها لتطال مختلف مناطق البلاد؟ ثم ماذا على الشعب السوري أن يقدِّم أكثر مما قدم، فقد أعطى المواطن الحزب وتلك الأجهزة على مدار ال41 سنة الماضية كل ما لديه؟! فما كان منها إلا أنها أعطته قمعاً وكتماً للصوت وسجناً وتعذيباً، أعطاها مواطناً صالحاً مرفوع الرأس والجبين، فأعطته مواطناً انتهازياً مباحاً له كل شيء حتى التعاطي بالأفيون، لكن ممنوع عليه التعاطي في السياسة أو إبداء الرأي، أعطته الحق في جمع الأرصدة والملايين مهما كانت الوسائل، لكنها منعته من الاجتماع بأشخاص عدة للتحدث عن هموم الوطن، أعطاها كل ما لديه من أحلام وآمال وردية وتطلعات مستقبلية!! ما لبثت أخيراً أن أيقظته على أخبار وجود تنظيمات إرهابية تخريبية مسلحة تقمع وتسلب وتقتل. فعندما كان الحصار الدولي في ثمانينات القرن الماضي مُطبِقاً أنيابه على سورية بشكلٍ مجحف لإدراجها ضمن الدول الداعمة للإرهاب، أثقلت هذه العقوبات كاهل المواطن وحرمته من معظم متطلباته اليومية الأساسية التي يحتاج إليها من سلعٍ تموينية وغيرها، في حين كان رجال الأمن ومسؤولو الحزب والمنظمات الشعبية ينعمون بها ويتلذذون، وعندما كانت شوارع المدن السورية خاوية من السيارات الحديثة، كانت سيارات تلك الأجهزة وأولئك المسؤولين فارهة ومتعددة الطراز، بينما كان السادة القضاة في محاكمنا يعانون الأمرين لتنقلهم بوسائلهم الخاصة، قبل أن يتطور الأمر بوضع سيارة منسقة بخدمة كل مجموعة، ثم أخيراً تخصيص سيارة"شام"لكلٍ منهم، وعندما كانت مواد البناء من حديد وأسمنت تباع بالدولار وبالكاد يتم العثور عليها حتى في السوق السوداء، كانت مقرات الفروع والقصور والفلل الفخمة يتم بناؤها على قدمٍ وساق، في حين ما زالت بعض قصور العدل لدينا مجرد أبنية مستأجرة وحالاتها لا تليق مطلقاً بهذه التسمية. أما على صعيد التكنولوجيا الحديثة من فاكس وساتاليت وأجهزة اتصال وخدمات الشبكة العنكبوتية"فكانت وما زالت من أشد الأعداء ضراوةً بالنسبة للنظام، لذلك فإن المواطن السوري كان محروماً منها حتى سنوات متأخرة، ولم ينقذها إلا اهتمام الرئيس الحالي بشار في أواخر تسعينات القرن الماضي بإحداث الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية. نخلص للقول إن ما يجري حالياً في سورية واقعاً كان أم مجرد روايات، قد ألحق ضرراً كبيراً بسمعة وهيبة الشعب السوري العظيم، الذي تميز بعمق ثقافته وطبيعته الحضارية، بل أضرّ ضرراً بالغاً بوحدة نسيج الوطن وتماسكه، فسورية ذات الموروث الحضاري الممتد عبر آلاف السنين، التي أعطت للعالم أول أبجديته، ومنها قام بولس الرسول بنشر روح المحبة والتسامح في جميع أرجاء المعمورة ومنها حمل عبد الرحمن الداخل شعلة الإسلام والعروبة ليقيم دولته القوية في غرناطة، ومنها انطلق صلاح الدين الأيوبي ليؤسس دولته، التي كسرت شوكة الصليبيين، ومن دمشقها نشر نزار قباني على أبواب كل مدن العالم عشق ياسمينها ومجد عروبتها، بينما على أسوارها نثر الماغوط أحزان وحرمان جميع المعذبين والمضطهدين في هذا الكون، سورية مهد الأبطال كيوسف العظمة، وإبراهيم هنانو وسلطان الأطرش وصالح العلي وحسن الخراط وعبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وغيرهم. إن سورية العظيمة هذه ليست كما يتم تصويرها على أنها مرتعاً للمتآمرين والمندسين والتنظيمات المسلحة والسلفيين والمخربين! بل على العكس من ذلك فإن الشعب السوري الذي لا رغبة له في امتلاك السلاح، بل الرغبة في الحياة الكريمة وإرادة التغيير نحو مجتمعٍ ديموقراطي متطور، تسود فيه ثقافة الحرية وروح العدالة والمساواة، ليس أقل حضارةً وتطوراً ووعياً من الشعب اليمني البطل، الذي لم يلجأ لاستعمال السلاح على رغم ما يشهده اليمن منذ أكثر من ستة أشهر من استعصاء سياسي أمني، مع أن لدى الشعب اليمني وفقاً للتقديرات ما لا يقل عن ستين مليون قطعة سلاح، فضلاً عما تشير إليه التقارير الاستخبارية عن وجود مؤكد لتنظيم القاعدة في بلاد اليمن، في حين لم تشهد سورية قبل بدء الاحتجاجات المطالبة بالحرية أي خلل أمني أو ما يشير لوجود مثل تلك التنظيمات أو سواها على مدار السنوات العديدة الماضية. فوزي مهنا - سورية [email protected]