خرجت أمل بسيارتها الخاصة ? التي لا تملكها سوى بالمال ? متجهة نحو عملها، الذي يبعد قرابة نصف ساعة عن منزلها، وأثناء ركوبها السيارة أحست برغبة في التراجع من شدة الأذى الذي واجهها للوهلة الأولى من فتح باب السيارة، فقد أحست باختناق منع عن شهيقها الأوكسجين بفعل رائحة"السجاير"النفاذة، التي تشربتها مقاعد السيارة وكأن مشعوذ ما قد بخر ذلك المكان المحدود بتلك الرائحة المسمومة! لكنها تذكرت ما عليها من عمل شاق يستوجب حضورها وعدم تغيبها، حتى لو كانت رئتاها من سيدفع الثمن! ركبت على مضض، وأبت إغلاق ذلك الباب فهو المنفذ الوحيد للحياة كما تراه، ولكنها كالعادة تستسلم لأجل الهدف المنشود، فبعد صراع مع التردد أقفلته مقفلة معه الأمل بتنفس الصعداء! بقيت لمدة تطول عن مدة ركوبها المتردد للسيارة، منتظرة ما لم ترد يوماً انتظاره، قائدها ومحرم سيارتها الخاص! وبعد دقائق طوال، التي قضتها وهي تتأمل بعينيها البائستين باب غرفته الخاصة المطل على الشارع، لعل طيفه المظلم أن يلوح، لو بأمل في قرب الألم الذي تنتظره مكرهة بكل ما أوتيت من صبر. ثم خرج سائقها الخاص كمن يجر وراءه عربة بلا خيول، ساحباً قدميه لا واطئ بهما، ينظر إلى السيارة بكل غرور، يفتح الباب متثاقلاً، يجره بهوادة المجبر، ثم يقذف بنفسه على المقعد محدثاً هزة لا تقل عن ثلاث درجات بمقياس"ريختر"، فيهتز معه كل ما حوته السيارة، ابتداءً بجسد"أمل"النحيل، وانتهاءً بحقيبتها اليدوية وحاسوبها المحمول. وبعد أن سكن وهدأ ذلك المكان الموحش، بدأت معه ترنيمة سائقها اليومية، ودندنته التي تُحدث أسوأ دوي يخترق سمعها، الذي عانت منه طوال فترة وجوده في توصيلها لما يلزمها من أماكن تلبي متطلبات حياتها وعائلتها، التي تصرف النظر عن بعض تلك المتطلبات أحياناً لمجرد تذكرها بالمقابل البغيض والمذل. لم يفتأ يوماً عن تذمره المعتاد، أو من معارضته لراتبه الذي يزداد شهراً بعد آخر، أو من إلحاحه لتمديد إجازته الأسبوعية لأكثر من يوم، مقارناً نفسه بها، كونها تحصل على يومين إجازة في الأسبوع، التي اضطرت أخيراً للتنازل عن نهاية الأسبوع كله، على رغم حاجة عائلتها للخروج في تلك العطلة الأسبوعية. لم تكن خلال بقائها في الخلف في مأمن من نظراته الحارقة التي يكاد إلتهام عينيها الحزينتين من وراء نقابها، مهما حاولت صرف بصرها نحو النافذة، أو إسقاطه في كتابها الذي وضعته بين يديها التي تنتابهما الرعشة أحياناً لتلك النظرات المؤذية. وفي كل مرة يصنع فيها ثقافة الابتزاز والتهديد بتخليه عنهم، يضرب لها أكاذيب واهية لصحبته من السائقين وامتيازات عملهم مع مكفوليهم، كي يجعلها تتخيل فقط، وضعها في ما بعد بين"مطرقة"دوامها اليومي و"سندان"مكاتب الاستقدام. كانت حريصة على حمل كتاب بحقيبتها لتقرأه أثناء الطريق، لعله إن رأها على هذه الحال، يعرض عن سخافاته التي لم تستطع هي التركيز في قراءتها بسببه، لكنها بقيت متمسكة بالكتاب لعله يراها منشغلة به فيرى الطريق ويركز هو أيضاً فيه، محاولة قطع أمله في مزيد من المهاترات. إلا أن محاولتها غالباً ما تبوء بالفشل، فمكره الذي يقتات من ورائه، يجعله يدرك انشغالها بالقراءة عن قصد، فتلمع في رأسه كالعادة أفكاره السوداء في استفزازها، ليختار أطول الطرق مسافة إلى مكان عملها، جاعلها ترفع رأسها عن الكتاب مجبرة لا مخيرة، باحثة ببصرها المندهش، الطريق الصحيح الذي خالفه، لما هو أطول وأغرب في العلامات والإشارات والتحويلات، إذ توقف عن إحدى الإشارات المرورية، وأثناء انشغالها بالنظر لذلك المكان، أدخل قرصاً غنائياً في محرك الأقراص، رافعاً الصوت إلى أقصى درجاته، فاتحاً نافذته، أمام السيارات الأخرى الموازية، وبالتفاتة منه تملؤها ابتسامة صفراء ماكرة خلق حولها هالة من شبهة دنيئة. فيزداد ألمها أكثر من قبل ويضيق ذرعها به، مع محاولات متخاذلة منها في محاولة تجاهله، لكن في النهاية استطاع كسب جولتها الخاسرة، ففي منتصف الطريق أشعل سيجاراً كي يجعلها أسير مزاجه الكريه وعناده المتجبر، فما استطاعت جلداً أكبر من قدراتها التي ضغطت على ذاتها كمحاولة للدفاع أو حتى التصدي. إلا أن سلوكه الأخير كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فأحدث نقطة تحول في حياتها، فلم يخطر بباله ما صدر منه كرد فعل! إذ صرخت من خلفه للمرة الأولى، واضعة حداً لتعذيبه واستخفافه بها، طالبة منه التوقف عن القيادة، عند أقرب رصيف والترجل عن سيارتها، معلنة طرده على ملكيتها التي ذاقت فيها الذل والهوان، فينزل على الرصيف فاغراً فاه، متسائلاً ومندهشاً بكل غضب: - ماذا تريدين؟... كيف ستذهبين؟... ماذا تفعلين؟فلم تجبه سوى بعمل طالما كانت تحلم به، والذي سلب منها بغير وجه حق! ركبت في مقعد السائق، وأدارت محرك سيارتها، وأمسكت بالمقود بكل هدوء وطمأنينة، مكملة طريقها اليومي نحو عملها من دونه، منهية دوامة من الصراع الإنساني المر تجاه نفسها ومثيلاتها. هند عبدالرحمن - الرياض جامعة الإمام"الدراسات العليا" [email protected]