تنزع الثقافات التقليدية في مجملها إلى تفضيل منطق التراتب الذي يحول والكون والعالم والمجتمع إلى طبقات بعضها فوق بعض. ونظراً لكون الثقافة من هذا النمط صلبة جداً وهشة تماماً في الوقت ذاته دوغما فإنها لا تتقبل الحوار حول مرتكزاتها الأساسية التي تبدو في رتبة البدهيات أو الحقائق المطلقة التي ينبغي التسليم بها كما هي عليه. وهي تلجأ إلى استعمال"القوة"أي إلى المنع والكبت، ليس لأنها غير حوارية بطبيعتها، بل لأن ممثليها الرسميين يدركون جيداً أن الحوار المعرفي الجاد حول مقولاتها وقضاياها ورموزها يمكن أن يخلخل بناها الدوغمائية الصلبة وقد يفتتها تماماً كما حصل في كثير من المجتمعات البشرية عبر التاريخ. وبعبارة أخرى نقول إن هذه الثقافة ومثيلاتها تظل تشتغل هكذا إلى أن تطرأ عوامل إبدال تاريخي أو معرفي من القوة بحيث تضطرها إلى التكيف مع منطق جديد يموضع الأشياء والبشر والأفكار على محور أفقي يبرز علاقات التجاور والتشاكل في ما بينها فيؤنسنها. ففي هذه الحال يتراجع دور النخب التقليدية لمصلحة نخب جديدة تسلم بمشروعية التنوع والاختلاف في الأفكار والمواقف، وبجدوى التعامل وفق مقولة المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، وبأهمية العمل والإنجاز كقيمة عليا تموضع الفرد في المكانة التي يستحقها بغض النظر عن عرقه وجنسه ومذهبه. وجزء أساسي من معاني تقدم البشر في التاريخ أو رقيهم في سلم الحضارة يتمثل في مدى تمكن هذه الثقافة الجديدة التي تعلي من شأن الحريات الفردية وتنمي علاقات التفاعل الخلاق بين مختلف الفئات الاجتماعية وتصر على مبدأ التبادل السلمي للمواقع والسلطات بين كل القوى السياسية. بناء على هذا كله نقول إن تلك العصبية ليست قانوناً طبيعياً حتمياً أو وضعية تاريخية ملازمة للعرب دون غيرهم بقدر ما هي جزء من بنى ثقافية عتيقة قاومت سيرورة التغيير وستظل تقاومها بشتى الوسائل والحيل. وبصيغة أخرى نقول إنها ليست مفهوماً مفسراً بل ظاهرة تحتاج إلى تفسير، ولكي نتفهمها من هذا المنظور لابد أن نعكس منطق القول لنعيد صياغة الإشكال ومنهج مقاربتها. فجمود ثقافة غنية عريقة كثقافتنا هي المفارقة التي ينبغي على الباحثين التفكير فيها، ولكي يتم التفكير فيها كمفارقة تنطوي على إشكال كبير لابد أن نقف خارجها، ولكن على مسافة قريبة منها. لماذا؟ لأن الابتعاد كثيراً عنها قد يورطنا في منطق المستشرق الذي يرى أن الاستبداد من طبائع الشرقيين والجمود من صلب عقيدة الاسلام، والبقاء في دائرتها يعني أن منطق الثقافة ذاته سيسيطر على الباحث ومقاربته بكل بساطة هذا ما حدث لابن خلدون، في المقدمة وفي ما بعدها، لأن مفاهيمه وأدواته لم تكن مفارقة لثقافته والأفق المعرفي لعصره لم يسعفه بغيرها. لنحاول إذاً مقاربة المعضلة وستتضح المفارقة بشكل جلي. فمن منظور زمني إرجاعي كان من المفترض أن تضعف العصبيات القديمة كلها تدريجياً مع ظهور الإسلام ونشوء مدينته ودولته التي كان من الممكن تماماً أن تستند إلى منظومات أفكار وقيم ومعايير جديدة قدمت نفسها على أنها نقيض مباشر لما قبلها، ولتلك العصبيات الجاهلية البغيضة على وجه الخصوص. وتتعزز وجاهة هذا الافتراض من المنظور الإبستمولوجي أو المعرفي حيث نمت وتطورت خلال القرون الأربعة التالية خطابات الفكر الفلسفي، وضمنها الخطاب العلمي النظري والتجريبي، لتخترق مجمل الحقول الثقافية بفضل حيوية النخب العالمة، ومنها النخب الدينية ذاتها ابن حزم كان فقيهاً مجتهداً، وابن رشد وابن خلدون كانا قاضيين. ومن منظور تزامني أو آني نلاحظ أن عوامل الإبدال التاريخية والمعرفية ذاتها تكررت، وبصيغة أقوى من ذي قبل ربما. فلقد نشأت الدول الوطنية الجديدة تباعاً، وتمت استعارة الكثير من الأنظمة والمؤسسات من الثقافات الغربية الحديثة، وأثرت عملياً في كل مجالات الحياة، بخاصة منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي الذي شهد ما نسميه اليوم بداية عصر النهضة الأدبية والثقافية. وإذا كانت القطيعة في مستوى الثقافات الشعبية غير واردة في أي مجتمع بشري، فمن المفترض والممكن أن تحدث سلسلة من القطائع الجدية في مستوى الثقافة العالمة، التي تتمثلها وتمثلها النخب الجديدة الفاعلة في المجتمع. ونركز على ثقافة هذه النخب، لأنها القوى الطليعية التي عادة ما تتبنى منطق التغيير وتباشره، فتفتح أفق التقدم أمام الجميع، ليصاحبوا التاريخ، ويعملوا معاً لمجابهة التحديات، وكسب الرهانات التي يطرحها عصرهم عليهم جميعاً. ونظراً لعدم تحقق شيء من هذا قديماً وحديثاً، فإن التساؤل عن العامل الأهم، الذي عطّل وسيعطل سيرورة التطور في معظم مجالات الفكر والعمل، يطرح نفسه مجدداً وبشكل أكثر حدة. هنا أيضاً تعددت الاجتهادات، وستظل تتكاثر، لأن للمربي والاجتماعي والاقتصادي والمفكر السياسي، وجهات نظر مشروعة ومفيدة في الوقت نفسه، لكن المنظور الفكري الذي يؤسس لهذه المقاربة نظرياً ومنهاجياً، يحملنا حملاً على ترتيب العوامل، بحسب أهميتها، لكي يبرز أكثرها قوة وتأثيراً بالأمس واليوم. هنا تحديداً نزعم أن السبب الأجلى في إعاقة سيرورات التطور في سياقنا الخاص، يتمثل في تلك الأدبيات الثيولوجية المتضخمة، التي صبغت ثقافتنا كلها بصبغة دينية، غالباً ما تكون مذهبية، بحيث لم يعد من المقبول التفكير في أية قضية بسيطة أو مركبة، فردية أو اجتماعية، طبيعية أو ثقافية إلا من هذا المنظور الأحادي من جهة، والمعادي لكل فكر عقلاني جاد، ولكل علم جديد من جهة أخرى. وإذا كان العرب توقفوا"عند حافة واحدة من أكبر الثورات الفكرية في التاريخ"، كما يقول توبي. أ. هوف في كتابه"فجر العلم الحديث"، لأن ثورة كهذه تقتضي تجاوزاً لكل الأنماط التقليدية للعلاقات الاجتماعية، وهذا ما ظل يتوجس منه ويحاربه رجال، الذين عادة ما تكون لهم السيادة الفكرية في المجتمعات الإسلامية، كما أشار إليه الباحث ذاته في غير موضع من كتابه ص: 82- 91- 110. وهم لم يتخذوا هذا الموقف لأنهم يعادون العلماء في المجالات الأخرى بالفطرة، بل لأنهم توارثوا خطاب الخوف من الابتعاد عن الأصل، الذي ينبغي حفظه والتذكير به وتمجيده، لأنه النموذج الأكمل لكل فكر وخلق. من هذا المنظور يتضح كيف أفضت عمليات تضخيم مقولات المقدس لتنتشر وتهيمن على الحقل الثقافي كله إلى إخضاع ثقافتنا في مجملها لنزعة سلفية تظل مشدودة إلى مرجعيات ثابتة يزداد التعلق بها والخوف عليها كلما مضى بنا الزمن بعيداً عنها. فالنماذج العليا في اللغة والأدب والمعرفة والسياسة والأخلاق هي ما أنجزه الأسلاف في الماضي، ومن لا يسلم بهذا الأمر ويشيد به ويشيد عليه، فهو محدث أو مبتدع لا يعتد بفكره وإنجازه. نعلم جيداً أن هذه النزعة السلفية المعممة لم تكن خياراً لأحد في البداية، لأن الثقافة العربية ما قبل الإسلامية كانت ثقافة قبلية شفاهية، لا علاقة لها لا بمدينة أو بدولة. لكننا نعلم أيضاً أن التحولات الكبرى، التي طرأت تالياً جعلت النخب الفاعلة في جل الحواضر الإسلامية تتفاعل بشكل خلاق مع الفكر الفلسفي، وضمنه التفكير العلمي النظري والتجريبي، بل وشاركت بقوة في تطويره كما بينه بتوسع توبي. أ. هوف وكثير من الباحثين قبله وبعده. وإذا كان النكوص والارتداد أصاب ثقافة حيوية كهذه، فذلك لأن هذا العائق العميق ظل يعطل سيرورة التطور التاريخي للفكر، بما ينطوي عليه ويولده من أشكال الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، خصوصاً بعد أن نجح رجال الدين التقليديون في سحب المشروعية عن هذه العلوم العقلية، باعتبارها أجنبية أو دخيلة مشبوهة أو خطرة. ولم تكن كتابات واعظ كالغزالي لتصيب الفلسفة وعلومها في مقتل، لولا شيوع تلك النزعة من قبل، وتحديداً منذ عصر التدوين الذي تأسست فيه كل العلوم التقليدية بطريقة تجميعية فجة، تتمركز حول الخبر الذي تحول إلى مصدر لكل علم معتبر، ومفهوم التجديد لم يعد يعني الإضافة إلى ما سبق إنجازه، بل العودة إلى الأصل الأول النقي. ولعله من الضروري أن نلح على هذه القضية اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأننا لا نزال نعاني الإشكال ذاته، ولن نتجاوزه من دون الوعي بأن القطيعة مع معارف الماضي، وليس مع العقيدة الدينية في ذاتها، ليس مطلباً لبعض النخب الحديثة بقدر ما هو سنة تاريخية وحاجة اجتماعية في المقام الأول. * ناقد وأكاديمي.