فشل الاجتماع الأخير الذي عقده المجلس العسكري وممثلي 13 حزباً في إحداث انفراجة على الساحة السياسية المصرية، إذ انتهى بتوصيات لا ترقى إلى درجة القرارات، شملها بيان نائب رئيس المجلس الفريق سامي عنان عقب الاجتماع، وهي دراسة إلغاء العمل بقانون الطوارئ، والعزل السياسي لقيادات الحزب الوطني لمدة عامين، وإلغاء المادة الخامسة من قانون مجلسي الشعب والشورى، ووضع مواد حاكمة للدستور وكذلك معايير لاختيار أعضاء «لجنة المئة» وتحديد مواعيد محددة للانتخابات البرلمانية والرئاسية. تلك التوصيات لاقت ردود أفعال غاضبة من غالبية التيارات والأحزاب السياسية دفعت بعض ممثلي الأحزاب الموقعين على البيان إلى سحب توقيعاتهم، ما زاد من حال الجدل والالتباس في شأن نتائج هذا الاجتماع في الشارع المصري. إلا أن الإشكالية الأساسية في نتائج هذا الاجتماع تكمن في تعاطي المجلس العسكري مع مسألة العزل السياسي لفلول الحزب الوطني. فالمجلس العسكري اكتفى بعزل قيادات الحزب وأعضائه في مجلسي الشعب والشورى المنحلين لمدة عامين وهو قرار ضيق النطاق على مستوى فترته الزمنية وعلى مستوى عدد الأعضاء المعزولين الذي لا يتجاوز على أفضل تقدير 600 عضو، وهو ما يعكس أزمة حقيقية في تعاطي المجلس مع تلك المسألة. فالهدف المرجو من تطبيق العزل السياسي، ليس فقط محاسبة بعض فلول الحزب الوطني الذين تورطوا في عملية إفساد الحياة الحزبية والسياسية في مصر خلال العقود الثلاثة من حكم مبارك، بل هو حماية ثورة يناير من عبث تلك العناصر الانتهازية التي ستمثل عودتها للمشهد السياسي من جديد عقبة حقيقية في مسارها المستقبلي قد تؤدي إلى إجهاض نتائجها بالكامل. فثورة يناير لم تكن مجرد ثورة على نظام مبارك ورجاله في الحزب الوطني بقدر ما كانت ثورة على نظام يوليو ودولة يوليو، ومن ثم فإن أحد أهدافها الأساسية يكمن في كسر الإطار الذي خلقه نظام يوليو لاحتضان تلك العناصر الانتهازية داخل ما عرف بحزب الدولة بدءاً من الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي في العهد الناصري وصولاً إلى حزب مصر في عهد السادات انتهاء بالحزب الوطني في عصر مبارك وتوظيف تلك العناصر بالمقابل لحال الاستبداد التي خلقتها تلك النظم لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والجهوية بغض النظر عن مدى اتساق مواقف تلك العناصر مع قناعتها الأيديولوجية. فمن المؤسف حقاً أن الذين دافعوا عن سياسة التأميم والعداء للمعسكر الغربي وإسرائيل في العهد الناصري قد برروا الانفتاح الاقتصادي واتفاقية كامب ديفيد في عهد السادات ثم أيدوا الخصخصة والتطبيع في عهد مبارك. مكمن الخطورة هو في استمرار تلك العناصر في ممارسة هذا الدور على الساحة السياسية المصرية بعد ثورة يناير، لا سيما أن النظام السياسي الديموقراطي لا يعني فقط جماعة الحكم، بل يمتد ليشمل قوى المعارضة أيضاً ما يعني أن تلك العناصر ستكون يوماً ما عنواناً لدولة يناير حتى ولو من بين صفوف المعارضة، إلا أن الأخطر من ذلك هو تمكن تلك العناصر من إزاحة العناصر الثورية المخلصة وتصدر المشهد السياسي مرة أخرى وهو ما حدث خلال الثورة البلشفية على سبيل المثال، فمعظم المتتبعين لتاريخ الفكر الماركسي يرجعون انهيار الإمبراطورية السوفياتية إلى حال من التناقض الجدلي بين رؤيتين لتطبيق الماركسية، إحداهما رؤية يوتوبية حالمة سادت في ما عرف بالحقبة البطولية للثورة البلشفية التي هيمنت خلالها قيم ثورية ومثالية مثل تحقيق الإنسان لجوهره الإنساني وتجاوزه لواقعه المادي والإيمان بمركزيته وعدالة التوزيع والمساواة بين البشر ورؤية أخرى مادية أحادية سادت مع انحسار تلك الحقبة وإقصاء أبطالها من الثوريين الحالمين من المشهد السياسي وهيمنة ستالين وبيريا وغيرهم من العناصر الانتهازية والبيروقراطية على جهاز الدولة ما أزاح تلك القيم اليوتوبية المطلقة لتحل محلها ثقافة استهلاكية هدفت في شكل أساسي إلى تفريغ الفرد داخل المجتمع الاشتراكي من كل قيمه الإنسانية المتجاوزة للواقع المادي وهو ما أدى لإجهاض نتائج ثورة أكتوبر وسقوط النظام السوفياتي ككل. وهو ما يمكن أن يتكرر بصورة أبشع في حال الثورة المصرية مقارنة بالثورة البلشفية التي أجهضت على رغم من أنها كانت مسلحة بعقيدة أيديولوجية صارمة وأفرزت في بدايتها زعامة تاريخية، كلينين، أمسكت بمقاليد السلطة، كما أن الانقلاب على مفاهيمها قد حدث داخل صفوف الثوار أنفسهم بعكس الثورة المصرية التي لا تتشح بأية عقيدة أو مرجعية أيديولوجية ولم تفرز أيه قيادة تتولى موقع السلطة وإدارة الدولة كما أن الانقلاب على مفاهيمها سيأتي من ألد خصومها وأعدائها، ومن ثم فإن تجريدها من قيمها المطلقة وإنهاء حقبتها البطولية سيحدث بشكل أسرع وأفدح مما حدث للثورة الروسية. ما يعني أن الأولوية الأساسية في هذه المرحلة، سواء بالنسبة للتيارات والقوى السياسية أو الثوار هي التفعيل الحقيقي لمبدأ العزل السياسي لفلول الحزب الوطني بما يضمن إزاحتهم عن المشهد السياسي بشكل كلي ولو لفترة عشر سنوات على أقل تقدير حتى تتسنى لكل القوى المؤمنة بثورة يناير الفرصة الكاملة في بناء نظام سياسي جديد يعكس القيم الإنسانية الكبرى التي عبرت عنها ثورة يناير وعمدها المصريون بالدم والدموع في ميادين وشوارع مصر خلال ثورتهم المجيدة. * كاتب مصري