لعلّ الملاحظات الّتي سنقدّمها حول عمل عبداللّه السّفر"جنازة الغريب"موصولة الوصل كلّه بما يصطلح عليه في مجال نقد المعرفة بفلسفة استنفار الأشكال الّتي تدخل تحت ألوية نظريّة الأشكال وهي نظريّة تجعل الأشكال المعرفيّة أو الإبداعيّة الجماليّة، معبرا للظّفر بالمقاصد والتّأويلات. فما هي أشكال الكتابة في مُؤلّف عبداللّه السّفر"جنازة الغريب"؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن نعتبر تجربة السّفر الإبداعيّة إيذاناً بميلاد المبدع العربيّ المحتمل الّذي ينبعث من رماد الذّاكرة ويتّخذ من استعارة النّسيان نافذة منها يندلف في محيطات صناعة المتفرّد وكتابة الطّريف بناء ومقاصد؟ وصف وتوثيق "جنازة الغريب"مجموعة نصوص - كتابات أنشأها عبداللّه السّفر وأخرجها على النّاس مطبوعة نادي المنطقة الشّرقيّة الأدبيّ سنة 2007. وقد ضمّت هذه النّصوص الكتابات 21 عنواناً،أرسلها صاحبها إرسالاً بلا قيد فلا يمكن ردّها إلى نوع أدبيّ أو وصلها بجنس كتابيّ فكأنّها شكل يختزل مشهد الغربة المشيّعة في جنازة القدر الّتي كانت علامات اللّغة مختزلاً لها تقول مشاهدها وتترجم أحوالها. كما نلاحظ إلى جانب الكتابة المرسلة:"الكتابة الّتي لا تتموقع حول مركزيّة النّوع أو الجنس"، انّ نصوص هذا المؤلّف إنّما كان يحكمها شكل الومضة العابرة الّتي تستحضر كلّ مرّة حلماً تائهاً أو ذاكرة شاردة أو ألماً دفيناً أو لذّة مجهضة...، فكأنّها التقاط من غريب لمشاهد لا تطول في مدائن الأحلام أو رحلة القدر الّتي تختم بجنازة تنهي غربة الواقع بمجهول محتمل. إنّ هذا التّوصيف المجمل لمؤلّف عبداللّه السّفر"جنازة الغريب"، جعلنا نقف على مركز التّكثيف الدّلاليّ كما جعلنا نظفر بنواة تولّد المعنى الأدبيّ المكثّف في هذه النّصوص - الكتابات الّتي أراد لها صاحبها أن تنعتق من ربقة ما ارتضته لغيرها نظريّة الأنواع الأدبيّة من حدود بها تسمّي مبدعات المبدعين لتملّك قوانينها وتدجين منفلتها يروّض ويدجّن ويوضع داخل أسيجة التّصنيف حتّى لا تضلّ معانيه ولا تشكل مقاصده. عتبة العنوان:"جنازة الغريب" لقد حمل عتبة العنوان:"جنازة الغريب"، ما يسمّى في أعراف النّحويّين تركيبا إضافيّا طرفه الأوّل جنازة وطرفه الثّاني الغريب، ومن المعاني الّتي يرشح بها هذا التّركيب النّسبة والإلصاق والتّعليق، إذ جعل المؤلّف عنوان مؤلّفه دالا على مدى تلبّس الجنازة بالغريب والتصاقها به دون غيره تمييزاً وتخصيصاً. والملاحظ في هذا العنوان أنّه يستبطن معنى الغربة المركّبة، غربة الاغتراب عن الوطن والأهلين والأحبّة: مفهوم الغربة وغربة الأفول والزّوال:"ما ترشح به لفظة الجنازة". فكأنّ عتبة العنوان من جهة كونه نصّا مكثّفا وخطابا مختزلا لما سيرد ضمن المتن من دلالات ومعان، إشارة إلى مأساويّة التّجربة الإبداعيّة الّتي تنشأ في أقاليم الغربة وتنجم من مناخات اليتم والانقطاع. فكأنّ عبد اللّه السّفر إنّما بهذا الابتداء المكثّف في عنوان مؤلّفه، يوجّه قارئه إلى عالم خطابه التّائه في غربة وجوديّة قاتمة تختزل وعي المؤلّف بمضايق الذّات وبإكراهات التّاريخ الدّامية. عتبة صورة الغلاف - سميولوجيا الرّسوم تتكوّن صورة الغلاف من عناصر أهمّها:سحاب متلبّد. ظلام دامس شخص مقنّع يحمل بين يديه آلة موسيقيّة يعزف بها قدره الغائم ويشيّع بأنغامها جنازة الغريب. إنّ اللاّفت في عناصر هذه الصّورة العتبة إنّما هي الغيوم والأقنعة والظّلام والدّيجور، فهي صورة ترسم بالرّيشة والألوان ما رسمه الكاتب في عنوان مؤلّفه بالعبارة والكلام، فكأنّ بين المرسوم والمكتوب تناصرا وتظافرا وانسجاما، مختزلة الغربة واليتم والانقطاع. وبذلك يمضي عبداللّه السّفر في توجيه قارئه إلى بؤر المعنى الّتي سيدير عليها نصوصه وهي بؤر موحشة تختزل ألم المبدع تجاه ذاته وقبالة مصيره. عتبة عناوين النّصوص إنّ المتأمّل في عناوين نصوص جنازة الغريب، سيلاحظ أنّها هي الأخرى تستبطن معاني الغربة والألم والفقد: عبير/ يخلون/ المشارف/ المنسيّ/ الوحيد/ الألم/ الغائبون/ خافت الضّوء/ مضيق/ رماد الاختناق/ العراك/ اعتكار/ ذئب يعرج/ قرية نائية/ هشيم المكان. إنّها عناوين يشيّع بها صاحبها جنازة الكلمات الّتي وأدها صخب المعنى فتاهت وعجزت عن تأدية مقصود الإنسان في الوجود تحيط به الحتميّات وتحبط سيره المنعرجات. فكأنّ الجنازة هنا، جنازة الرّمز المفرغ من المعنى الأنطولوجي الّذي يستحيل غريباً في وطن اللّغة من جهة كونها قدّاس الكائن وسكن روحه: هيدغر، فهي ملاذه، إذا سخط وضاقت به الذّرائع يحمّلها من أدفاق روحه وشذرات ألمه وبهاء أحلامه ما لا تقدر عليه الجبال الرّواسي أو الرّجال العظام، فهي ذلك الكائن الثّخن والجسد النّحيف المجرّد الّذي يحتمل كثافة الكائن المبدع أنطولوجيّاً ورمزيّاً: قضيّة احتمال العلامة اللّغويّة المعاني اللاّنهائيّة من خلال التّرميز والإيحاء. في التّمرّد على مقولة النّوع الأدبيّ إرادة التّجاوز لم تلتزم "جنازة الغريب"، بمقولات المنظّرين في شأن أنواع الكتابة وأجناسها، إذ كانت مبدعات السّفر نصوصاً غفلا من كلّ الحدود والمعايير، كأنّها تحكي ظمأ المؤلّف إلى استعادة تجارب الكتابة الأوّلية/ البدئيّة الّتي كانت فيها الذّات المبدعة كينونة حرّة ترسم خرائط معناها خارج الحسابات وبعيداً عن التّعاليم النقديّة الآسرة. والمتتبّع لطوبغرافيا الكتابة في"جنازة الغريب"، سيجد أنّ لها جملة من الإحداثيّات تؤصّل شكلها المخصوص وتنعت نمطها المتجاوز. وأهمّ تلك الإحداثيّات/ العلامات: - العبارة المنثورة الواصفة، السّاخرة، المتمرّدة:"يطيش الفؤاد، يمتقع من الفزع. الأرض تميد، حمامة السّكينة تناثر ريشها، طبل الرّحيل يدقّ في غزارة النّداء الأخير، فيما الوجع جلد مشدود، يغذّيه العذاب وخدوش الحنين". ص 33. - هندسة فضاء الورقة: تختزل هذه الهندسة تقطّع الذّات وتشتّت الكيان الّذي مبعثه الحيرة الدّائمة من مصير مهدّم وقدر مجهول:"العين المشحونة بوارف الظلّ ورفّ العصافير تجتاحها فتنة المواقع، واكتظاظ الموائد يزيّن الخيط ويفتله على الرّقبة، فبأيّ عين ترقب أيّها الفتى، بأيّ عين مسمولة تحدّق وتشرع في النّحيب حصيرة الخيبة لظى/ جني الوحشة متاهة/ البئر عابقة بالحصى والغبار/ الهوّة دبقة بوميضها الخاطف/العظم في الوهن/ الرّأس في دورة الأبيض البغيضة". يزاوج عبد اللّه السّفر- وهو يملأ فضاء ورقته-، بين المنثور والمنظوم، كأنّه بذلك يضيق بانحسار المعنى فيستدعي له الأشكال كلّها، حتّى لا ينفلت منه فما ينثره النّثر ينظمه الشّعر فيستقرّ معنى الخيبة واللّظى في ذاكرة القارئ لا يفارقها إيغالاً في الأسى وتكثيفاً لوطأة التّدحرج في الهوّة السّحيقة، هوّة العدم والزّوال. إنّ لهندسة الفضاء: المزاوجة بين النّثر والشّعر/ التّوزيع البصريّ لمقاطع الكلام...، دلالة على أنّ عالم الكاتب الإبداعيّ عالم موصول بالمطلق والممكن، هول فاجعة وقتامة مصير اختزلته رمزيّة تشييع جنازة الغريب إلى مثواها الغريب الّذي أحاطت بصورته غيوم متلبّدة وظلام دامس وشخص مقنّع يعزف نشيد الوداع الأخير على سنفونيّة القدر الغائم. - عنونات الحدث المقطّع: الّتي تصوّر أنفاس الغريب قبل أن يؤول إلى جثّة تشيّع إلى أرض غربتها الأخيرة: ابتلاع/ ذوبان/ تفكّك، راجع نصّ مشاهد، ص ص 41-44 . الملاحظ في هذه العنونات:*ابتلاع*ذوبان *تفكّك أنّها تصوّر المراحل الّتي تأتي على الإنسان بعد موته وتحوّله إلى جسد هامد يبتلعه الغياب، فيذوب ويتفكّك وتتلاشى مكوّناته. إنّ قتامة المشهد الّذي يلحّ عبداللّه السّفر في توصيله إلى قارئه، إنّما تعكس رؤية المؤلّف إلى مصير الذّات الإنسانيّة في راهنها وزمانها، يحيط بها المجهول ويتهدّدها الذّوبان والتّفكّك. 4/ كوجيتو الغريب/ اكتشاف الذّات من عدمها:إنّ الإيغال في معاني الابتلاع والذّوبان والتّفكّك والألم والضّنى، لم يمنع عبداللّه السّفر من الاهتداء إلى ذاته في رحلة بحثه عن المستقرّ الآمن:"في مكان آخر هكذا يلتئم الهشيم/ وتكفّ الوحشة/ وربّما قال"العوسج"ذات ربيع/ إنّه"أنا"الجثّة هشيم المكان، ص ص، 96-97 وقد ارتبط نمط الكتابة هذا بالأدبيّات الرّومنطيقيّة الأولى مع بودلير، حيث كان الجميل عنده يخرج من منعطفات المتحلّل القبيح والموات الهامد: رمزيّة الجثّة المتحلّلة عند بودلير، وهي طريقة فنيّة تروم تجديد طرائق التّعبير عن الجميل بضدّه، حتّى تقتل الغرابة رتابة المعتاد وتصنع كوناً عجيباً يختزل ألم الإنسان يتوق إلى الانعتاق من غربته من خلال استعارة السّكن الأليف والموطن الملتئم، إذ لا فناء ولا موت ولا غربة. إنّه عالم الكلمات الّتي يعمل الأدب على تجويزها مجازاً وتحقيقها تصوّراً وافتراضاً. * ناقد وأكاديمي تونسي.