كثر الحديث في هذه المرحلة التاريخية عن الحرية والديموقراطية، ورفعت الشعارات المطالبة بها حتى تحولت إلى عمليات تجميل وتغطية وتمويه، بعيداً عن تسمية الأشياء بمسمياتها في عالمنا العربي، من أجل أن تكون هذه الحرية والديموقراطية فاعلة ومؤثرة على أرض الواقع. إن الإنسان في معظم دول عالمنا العربي محاصر مثلاً بحكم ما يسمى بالمخابرات أو البوليس السياسي، الذي يوظف طاقاته ويوجهها نحو منع ومطاردة هذا الإنسان داخل وطنه، بدلاً من حماية أمن وطنه الخارجي. إلا أن الواقع في المملكة العربية السعودية، التي أنعم الله عليها بحكومة متزنة رشيدة وحكيمة في سياساتها، فإن الإنسان السعودي محاصرُ بركنين مهمين هما: سيادة العصبيات على اختلاف ألوانها، والأصوليات الدينية التي كانت إلى وقت قريب متفاقمة ومسيطرة. العصبيات تفرض حصاراً على أتباعها من خلال سيادة النظام البطركي"الأبوي"، المتمثل في ثنائية الطاعة والولاء في مقابل الحماية والرعاية والنصيب من الغنائم، لهذا فهي عدوة للاستقلال الذاتي والتجرؤ على الفكر وبناء كيان فريد وأصيل، وتعطي الأولوية في مؤسسات القطاع العام للولاء وليس للأداء"أنت جيد ما دام ولاؤك مضموناً"، عندها فقط تنال نصيبك من الغنائم والحماية، ولا يهم بالطبع أداؤك مهما كان رديئاً! ويساند هذه العصبيات وجود للأصوليات المتطرفة في تفكيرها ونظرتها للحياة والوجود، فنراها توسع من أداء"التحريم والتكفير"عندما تشن حربها الدائمة باسم"الدين"على جسد المواطن وطاقاته الحيوية، وتذهب لأكثر من ذلك فتصل إلى شن الحرب على سلوكه وحركته، والأهم من هذا كله عندما تصل إلى فكره وانطلاق مرونته، لتتمكن من الوصول أخيراً إلى مطاردة النوايا الداخلية للإنسان بحيث تشل حركته وتقيدها في داخل وطنه. غريب حال من يعمل في"هيئة حقوق الإنسان"السعودية! إذ كيف يعملون على رفع تقريرهم السنوي لمنظمة حقوق الإنسان الدولية، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق المرأة السعودية من دون أن يعززوا التقرير بدراسة اجتماعية - تاريخية عن وضع المجتمع المحاصر بفئاته بين العصبيات القبلية أو ايديولوجيات الأصوليات الدينية، وتوضيح أهم الخطط والبرامج التي اتخذتها الدولة أو تنوي القيام بتطبيقها في سبيل معالجة مثل هذه الأوضاع الاجتماعية والفكرية - الثقافية"الخاطئة"؟ من أجل إقناع ممثلي الدول العظمى مثل بريطانيا أو سويسرا أو كندا وغيرها، التي رفضت مبررات انتهاك حقوق الإنسان في السعودية، خصوصاً في ما يتعلق بوضع المرأة. قبل وصف أي دواء ناجع لتصحيح وإصلاح وضع المرأة في بلادنا يجب الاعتراف أولاً بأساس الداء والمجاهرة به علناً، ثم العمل بكل وسائل الإصلاح للقضاء على وبائه المستمر في الانتشار، ومتابعة وسائل الإصلاح كافة عبر المؤسسات التي تُعنى بتعليم المرأة وتثقيفها وتنوير فكرها، ومحاولة تصحيح نظرة القبيلة المكونة للمجتمع عن المرأة، التي لا تزال تمثل في وسطها أداة للمصاهرة وإقامة الروابط بين العشائر القبلية فقط من أجل زيادة قوتها وسطوتها، فهي في واقع الحال ليست إلا أداة للتحالف والتلاحم"ورائدة الانكفاء على الذات"والتمسك بالتقاليد الخاطئة والبالية ووضعيتها، رغم وصولها إلى مستويات علمية عليا لا تزال تعاني من استلاب لوجودها في زمن انفتح العالم فيه وتجاورت دوله تقنياً وفكرياً وحضارياً، كما تتجاور المنازل في القرية الواحدة. وفي تصوري أن المرحلة الراهنة والمستقبل القريب قد يشهدان خطوات أولى جيدة من أجل إصلاح وضع المرأة في البلاد الذي يتطلب - من وجهة نظري - وضع برامج وخطط تعليمية وإعلامية - تثقيفية - للتركيز على العمل لمحو جميع الأعراف والتقاليد المتوارثة عن حقبات تاريخية ماضية كان الجهل والتخلف وعدم انتشار التعليم هي السمة البارزة لتلك المراحل ثم توارثتها الأجيال واعتقدت بها وآمنت حتى أصبحت من الأفكار والثقافات التي لا يمكن الاستغناء عنها، وأهم تلك الموروثات الخاطئة التي تنسب عادة إلى الإسلام وهو بريء منها وضع المرأة الذي لا نزال، ونحن في هذا العصر، نسمع ونقرأ عن حالات لبعض"إمهاتنا وأخواتنا وكذلك بناتنا"تمارس عليهن أقسى أنواع العبودية التي تباع وتشترى فيها بعضهن بعقود زواج - مثلاً - من أجل مبالغ مالية أو الحصول على سطوة أو جاه يتقاضاه الأهل باسم الدين والأعراف والتقاليد الجاهلية التي تحول المرأة في هذه الحالة إلى عبودية الفلاح الذي كان يباع مع الإقطاعية من إقطاعي إلى آخر. وأوجه في واقع الأمر عتبي إلى الطبقة المفكرة والمثقفة في بلادنا، كونها ذهبت بعيداً جداً إلى دفع المرأة نحو تمكينها من حقوقها السياسية والشخصية، قبل أن تعمل جاهدة على تخليص المرأة أولاً وفك قيود أسرها لذاتها الذي يخضعها إلى عبوديته ثم إلى عبودية المجتمع حولها، حتى أصبحت لا تفرق بين حريتها كإنسانة بالغة عاقلة منحتها لها الشرائع السماوية، وبين الاجتهادات الفقهية البشرية المتوارثة والمطبقة في القوانين الشرعية والمدنية في البلاد - حتى وقت قريب - والتي فرضت على المرأة قيماً تقمع في واقعها الجسد وتحاصر العقل وتشل تفكيره، في الوقت نفسه الذي غرست عن طريق المرأة كوسيلة في عقل الرجل ونفسيته قيم الطاعة العمياء حتى للأخطاء الاجتماعية الموروثة، وعوّدته على الزهد والقناعة وبذلها في سبيل الدفاع عن استمرار بقاء الأفكار العصبية القبلية من دون إصلاح، فبقيت المرأة لدينا رغم تقدم تعليمها عبارة عن مجسم للقهر والغبن، بينما تمكن الرجل المغبون هو الآخر داخل حصار تلك العصبيات محتفظاً بشيء من توازنه وكبريائه الظاهري، بينما يكادح قهره ضمنياً. لم تعد هذه المرحلة التاريخية تسمح للإعلام السعودي بوسائله كافة التركيز فقط على إظهار أصوات نسائية إعلامياً تسير وفق سياسات معينة من أجل الدعاية والإعلام عن وضع المرأة في البلاد وتسميع العالم بأن وضعها مستقر وعلى ما يرام إلا من بعض الحالات الشاذة، أو تظهر بعضهن للمجاهرة بحقوق سطحية وثانوية قد تثير السخرية من العقول والمستوى الثقافي الذي تعكسه - مع الأسف - بعض الأصوات النسائية المطالبة بحقوق المرأة السعودية، الأمر الذي يعطي الحق، من وجهة نظر الآخرين، للرجل السعودي كي يبقى مهيمناً عليها ككائن بشري بكل ما تملك، تحت ستار"من أجل مصلحتها لأنها لا تزال غير مهيأة للمطالبة بحقوقها". * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]