المشهد في غزة جميعه مؤلم، لكن الأشد ألماً هو ما صرح به أحد قياديي"حماس"من الجزائر، حينما أعلن بشيء من السعادة أن إسرائيل فشلت في هجومها على غزة، والدليل هو أنها لم تطل من عناصر حركته سوى خمسة فقط، وهو ما يُعد بالنسبة له انتصاراً مبيناً، ونسي أو تناسى أو سقط عمداً وليس سهواً أن هناك ما يفوق ال300 أو 400 شهيد من نساء وأطفال وكبار في السن وشباب فلسطينيين في غزة قتلوا بصور بشعة لا إنسانية، نسي أن هناك طائرات حربية تدك بصواريخها منازل أناس بسطاء لا يعرفون معنى المتاجرة والمزايدة. بدا هذا التصريح بالنسبة لي على الأقل أكثر إيلاماً من منظر القذائف والصواريخ والحرائق والخراب المنتشر في كل شوارع وميادين ومباني القطاع، فحسب ما فهمته منه هو أن الضحايا فقط يحسبون من جانب"حماس"، أي أن هذا القيادي لا يرى ال400 شهيد ويسقطهم من حسابه، ويرى فقط الخمسة الحمساويين، أما باقي الضحايا فليس لهم أهمية، وليسوا جديرين بالذكر، أو حتى منحنا فرصة التألم بشأنهم، لقد أرعد وتوعد القيادي من"حماس"كما قدمه الإعلام، ولفت انتباهي أناقته وهندامه وشكله المهذب، للحد الذي كدت أشم رائحة عطره الباريسي، وأرى ماركة ثيابه الأوروبية من شاشات الفضائيات المختلفة، التي كانت تتناول بيانه وتنقله تحت بند عاجل. كان يتحدث من الشقيقة الجزائر، حيث الجو هناك الآن على ما أعتقد جميل، والطبيعة ساحرة، والجبال المكسوة بالخضرة تبعث في النفس الطمأنينة والراحة، والبساط الأزرق من المياه الهادئة تحتضن شواطئ المدينة التي يقطن بها، لتحيل مساءه إلى أمسية رومانسية جميلة، يلقي ببيانه ليعود حيث الدفء وحيث زوجته وأولاده، ولتحيا القضية التي حولت مستقبله من ضحية يتلقى الضربات على رأسه إلى قيادي يعيش في أجمل العواصم، ويسكن في أفخم القصور والفلل، ولا يتحرك سوى بموكب من السيارات الفاخرة. قيادي آخر يخرج علينا منظراً من دمشق، ليقول بشيء من القرف والضيق، وكأنه ينفي عن نفسه تهمة الانتماء إلى الشعب الفلسطيني العظيم، فيقول متبجحاً بأنه لا مشكلة إذا زاد عدد الضحايا فلا يهم، المهم أننا سنذيق الاحتلال الإسرائيلي مرارة الهزيمة، وبحثت في ثنايا حديثه عن أي معنى للانتصار يقصد فلم أجد سوى المرارة والتعالي، ثم يخرج حسن نصرالله عبر شاشات تلفزيونية ضخمة ليخطب في المغيبين عن حقيقته، مغرداً وصادحاً بأن القضية ستحل بالدماء، مطالباً بتقديم المزيد من الضحايا، ولا مانع لديه إن أضيفت أرقام جديدة للضحايا من هنا أو هناك، المهم والهدف الرئيس لديه هو أن يرى دماء وفوضى في المنطقة لتعيش القضية ويحيا القياديون ويخسأ الشعب الفلسطيني. إن غزة بقدر ما آلمتنا وأدمت قلوبنا إلا أنها كشفت بلا مواراة عن الوجه القبيح للتحرك الإيراني في المنطقة، ومحاولاتها الحثيثة في إثارة الفوضى، ومن ثم الإمساك بعناصر وخيوط القضايا المصيرية في المنطقة عبر مجموعات من المرتزقة تبيع ولاءها ووطنها في مقابل الانبطاح أمام الملالي والفلالي، وحتى لا يكون الحديث مجرد كلمات لا معنى لها كان بودي أن أرى من زعيم المقاومة وشيخها وقائدها ومنظرها في المنطقة حسن نصرالله، كما يحلو له تسمية نفسه، عبر البيانات والمخابئ التي تضفي على شخصيته أهمية، وتزيد بهاءه وحضوره، طلقة رصاص واحدة تُطلق لترفع الظلم عن إخوانه في"حماس"، كان بودي أن أرى تحركاً من صواريخ مقاومته، التي يتغنى بها ليل نهار، وبأنه قادر على الوصول بها إلى قلب إسرائيل، أن يُطلق ولو صاروخ واحد فقط ليخفف عن أشقائه هناك، أليس الدم الفلسطيني بنفس قيمة الدم الخاص بعناصر حزبه، ألا تحرك دماء الفلسطينيين المهرقة فوق أرض غزة الآن فيه نخوته وشهامته وعنتريته؟ اين اختفت هذه العنتريات؟ ولماذا تلاشت؟ وما سبب تمخض السيد عن صورته الأسدية ليصبح ويتحول وديعاً أليفاً، يكتفي فقط بالبحث عن إثارة وتقليب الشوارع العربية، ويحثها بخطبه الرنانة على إثارة الفوضى ونشر الخراب باسم القضية، ولتحيا القضية وتعيش القضية، حتى ولو مات وقتل وشوه الشعب المسكين المغلوب على أمره. أعتقد أن الفلسطينيين كما العرب جميعاً باتوا يعرفون الآن، أكثر من أي وقت مضى، حقيقة المتاجرين بهم، وحقيقة المستغلين لمعاناتهم، وحقيقة القابعين في القصور الفخمة والسيارات الفارهة، والمتنقلين وسط العواصم التي يطلقون عليها آمنة، ضاربين بأحذيتهم رأس هذا الشعب، بل وباقي الشعوب العربية، لتختزل المسألة جميعها في شعار من أجل القضية، ويمنحوا بين فترة وأخرى الفرصة للإسرائيليين ليعربدوا ويعيثوا فساداً وسط أناس لا ذنب لهم سوى أنهم تحولوا بفعل أشقاء لهم إلى سلعة تُباع بكل أسف،"تباع فقط"، ولا تشترى. [email protected]