كنت أتمنى أن يكون حديثي عن الكاتب الجميل عبدالله الجفري، سلم الله قلبه وعافاه، حديثاً نقدياً أو مقاربة نقدية لعمل إبداعي من أعماله الكثيرة، غير أنني وجدتني هنا إزاء حديث وجداني من القلب، حديث وفاء وعرفان بدوره المؤثر والرائد في حياتنا الثقافية. حديثُ تتخطفه بعض الذكريات وبعض اللمحات والالتماعات المنسية من بدايات التكون الأدبي البكر، بما تركه الجفري من تأثير بفعل موقعه الصحافي والأدبي آنذاك في سبعينات القرن الماضي، وبما وضعه من بصمات في طريقي الأدبي وربما في طريق بعض قرنائي في ذلك الزمن الجميل النقي، المستقطع من تاريخنا الأدبي والفكري، واقصد به زمن ازدهار صحيفة"عكاظ"، وصحف أخرى ك"البلاد"و"المدينة"في المنطقة الغربية، والدور الذي اضطلعت به في تحريك الساكن في المشهد الأدبي، وتجديد المتوثب والمتحرك في الحركة الأدبية، ورفدها بالجديد والمغاير ضمن أفق التنوير الذي حملته في عقلها كوكبة من الكتاب والأدباء والمثقفين، خاضت معارك الكلمة المسؤولة وعمليات التلقيح الثقافي والإبداعي من داخل المشهد الصحافي ذاته ومن أتون البوتقة الصحافية المتأججة عملاً وظيفياً يومياً أو إبداعاً وتنويراً، من ضمن هذه الكوكبة الأدبية الصحافية الرائدة، كان كاتبنا الأستاذ عبدالله الجفري الأكثر بروزاً وحيوية والأكثر استمرارية، بل كان الأكثر كدحاً في نحت الكلمة المبدعة والأكثر إخلاصاً وانفتاحاً على السلالات الكتابية الأخرى... إبداعاً ومقال رأي. لا أنسى وقد كنت في السادسة عشرة من عمري 1971، كيف كنت أحرص على متابعة كتابات الجفري في صحيفة"عكاظ"، الذي لم يكن يكتفي بزاويته اليومية الشهيرة"ظلال"، بل كان يكتب مقاله الأسبوعي الضاف"الكبسة"كما كان ينعته. كانت الصحيفة لا توزع في نقاط بيع منتشرة في كل مكان كما هي عليه الآن، بل كنت لا أجدها في مكةالمكرمة إلا في أماكن محددة وبكميات قليلة، وكنت عادةً ما احصل عليها من مكتبة واحدة بجوار الحرم المكي مكتبة عبدالرزاق بليلة، وكنت اذهب في الصباح الباكر أيام العطلة الصيفية قبل افتتاح المكتبة في التاسعة صباحاً، لكي أحصل على نسختي من الصحيفة، التي كان يكتب فيها الجفري والكوكبة الجميلة الأخرى مثل: مشعل السديري وعلي عمر جابر وعلي مدهش وعبدالله نور ومحمد عبدالواحد، وآخرين، وكثيراً ما تكون مقالاتهم الأسبوعية محملة بمعاركهم الأدبية - معارك الكلمة - أو تكون كتاباتهم مشبعة بالأفكار الجديدة والطروحات الأدبية والفنية، التي تدور حول المشهد الثقافي العربي القريب أو العالمي البعيد. ومن خلال هذه الكتابات المقتحمة تعرفت عن طريقهم على أفكارٍ ورؤى عن السارترية والوجودية، واستمتعت بمناقشاتهم وسجالاتهم حول كولن ويلسون ورواياته أو جدالاتهم حول أفكار هربرت ماركوزة المفكر الأميركي المعروف. وكان الجفري كثيراً ما يختم مقالاته المطولة ومازال بشذرات من أقوال بعض الأدباء أو مقاطع من قصائد بعض الشعراء العرب المعروفين، كبلند الحيدري أو شاكر السياب أو احمد عبدالمعطي حجازي أو صلاح عبدالصبور، كما اكتشفت وأحببت عن طريقه الاستماع الى غناء المطربة العملاقة فيروز أو"الست"أم كلثوم أو العندليب عبدالحليم حافظ، وآخرين، عندما كان يطعم في ختام مقالاته الممتعة بمقاطع من أغنياتهم الجديدة، فكانت تأتي مقالاته توليفة رائعة من الرأي والفن والشعر، ما كان يدل على احتفائه العشقي بكل فنون الحياة ورغائبها. ولأن الجفري كان كاتبي الأثير، فكنت اشعر بأن موهبتي الأدبية تتفتق حتى لو بانت لي ملامحها الجنينية في مواضيع التعبير المدرسية، ففي تلك الفترة وجدتني اكتب كتابات وجدانية شبه شعرية على منوال طريقة الجفري في شذراته المجنحة، إذ أصدر حينذاك كراساً أنيقاً أزرق"لحظات"بإخراج صديقه الكاتب الفنان"مشعل السديري"ضمنه كل كتاباته الوجدانية النثرية والقريبة من البوح الشعري، فترك هذا المؤلف البديع تأثيره في وجداني لفترة ليست بالقصيرة، بل وكتبت عدداً من المقطوعات النثرية تحت تأثيرٍ من أجوائه ولغته الراقية المجنحة. وعندما علمت أن للجفري مجموعتين قصصيتين صادرتين له بعنواني"حياة جائعة"، و"الجدار الآخر"، لم آلُ جهداً في البحث عنهما في المكتبات حتى حصلت عليهما والتهمتهما قراءةً في أيام قليلة، وهنا أخذت توجهاتي الكتابية نحو منحى القص والتجريب فيه. أذكر قصة جميلة قرأتها للجفري بعنوان:"ما يحبوك البنات"، كانت من أشهر قصص مجموعته الثانية، فالقصة كانت واقعية وشفافة أجواؤها وأحداثها تدور في صميم البيئة المكية المحلية ومحتشدة بالمواقف الضاحكة والباكية في آن، حاولت الكتابة على طريقتها ففشلت، فكتبت عوضاً عن ذلك قصة قصيرة كانت من بواكير كتاباتي القصصية التي أخجل منها الآن، كانت هذه المحاولة القصصية تمتلئ بالأحداث الغرائبية التخييلية غير المنطقية وتتشح بأسلوب شعري غامض، بعثتها بالبريد المسجل لكاتبنا الجفري، ومرت أشهر طويلة ولم تنشر في صفحته الأدبية، عندها قررت القيام برحلة من مكة الى جدة للقاء الجفري شخصياً في مكتبه في الصحيفة للاستفسار عن مصير قصتي، وكانت أول رحلة أقوم بها بمفردي. فطرقت باب مكتبه على استحياء، وتقدمت لمصافحته مرتبكاً أعرفه بنفسي وسرعان ما تعرفت على الشخصية الأدبية المعروفة، الذي كان الجفري في حضرتها يتجاذب أطراف الحديث معها باهتمام واضح، إذ ازددت رهبة قاطعاً حديثهما ووجدتني أصافح الكاتب والمؤرخ الأستاذ الراحل محمد حسين زيدان الذي رحب بي بصوته الجهوري المحبب، وسألني عن والدي الذي كان معروفاً ككاتب محتجب، ودخلا كلاهما معي في حديثٍ شخصي طويل، قبل أن أسأل الجفري عن مصير قصتي القصيرة المرسلة إليه، فأذكر أنه قال لي شيئاً مثل:"قصتك جميلة يا أحمد وأنا دفعتها للنشر في صفحتي الأسبوعية - الصفحة السابعة - لكن ماذا أقول لك، فرئيس التحرير - وكان يومذاك الأستاذ عبدالمجيد شبكشي- منعها من النشر ليس إلا لأنها غير مفهومة ولغتها معقدة، أكتب يا أحمد غيرها ولا يهمك". وبقدر ما كانت إجابته الديبلوماسية محبطة لي بقدر ما كنت أشعر بالسعادة الطاغية، كوني أسمع كلاماً موجهاً لي وجهاً لوجه من أستاذ في القصة القصيرة. بعدها توالت كتاباتي الأدبية المتواضعة التي كانت تتراوح بين الخاطرة والقصة القصيرة في الصفحة السابعة من صحيفة"عكاظ"، سواء في الأيام التي كان يحررها الجفري أم الأيام التي يحررها زملاؤه من أمثال علي عمر جابر أو علي مدهش أو عبدالله خياط، ولولا الدفعة التشجيعية المهمة للأستاذ الجفري لي لما تجاسرت على الكتابة وعلى خوض هذا الفعل الجميل الذي ما زلت أقترفه بدهشة البدايات الأولى. عبدالله الجفري كما أرى صحافي من هذا الزمان له قلب مبدع عاشق، وأديب من هذا الزمان أتعبه عشق الصحافة وأتعبها في آن. فهو قد جمع الندين ولا أقول النقيضين، فصحافتنا السعودية خدمت أدبنا وحركته برموزها وروادها وأدبنا أيضاً برواده الأوائل كأحمد السباعي وعبدالفتاح البومدين وعبدالقدوس الأنصاري، أعطوا للصحافة مكانتها ودورها التنويري الملموس في ذلك الزمان في غياب المجلة الأدبية المتخصصة. عبدالله الجفري - عافاه الله - وهو الصحافي الكادح والدؤوب كما أرى لم تنصفه صحافتنا، وأوساطنا الأدبية، ولم يكرم بما يليق بقامته الأدبية وتاريخه الصحافي، فهو في حياته الصحفية المديدة كان ينتقل من صحيفة الى أخرى، وكل صحيفة كان يكتب فيها يتمرد عليها أو تتمرد عليه وتتنكر له كما يتنكر الولد العاق لأبيه، وفي آخر لقاء لي معه وكان صدفةً وخاطفاًً في مطار جدة قبل أكثر من 15 عاماً، كلانا كان متوجهاً الى قاهرة المعز لحضور فعاليات معرض الكتاب الدولي. جلست معه لدقائق وهو يشكو لي هذا العقوق الصحافي، والأدبي بمرارة. قلت له:"أنت يا أستاذ عبدالله أكبر من هذا العقوق، يكفيك أنك من الرواد الصحافيين الأوائل وما تركته في وجدان هذا الجيل من مكانة أدبية وريادة صحافية، سيبقى ملهماً لنا في تاريخنا الصحافي والأدبي المقبل. سلمت قلباً وجسداً.