إنه موظف ملتزم بساعات الدوام، يجلس منذ"السابعة والنصف صباحاً"على كرسي متواضع بزاوية مكتبه المربع، إذ يهتم بالوجود باكراً، ولا يغادر المكتب قبل أن يضع توقيعه على بيان الانصراف، وظل على حاله هذه منذ تَعَيَن، لا يخشى إلا من"حسميات"التأخير التي ستحرمه بضعة ريالات هو في أمس الحاجة إليها... 33 سنة من العطاء كافية لأن يتعلم الحرص على ساعتي الحضور والانصراف، طالما أنه محتاج إلى إكمال أكبر عدد من سنوات الخدمة حتى تؤمن بها الحصول على راتب تقاعدي مجزٍ يكفيه ذل السؤال، ويشعره بمردود العمل، وقيمة الحياة بعد التقاعد، إذ إن حالته الصحية لم تعد تسمح له بالحركة النشطة، أو سرعة الانجاز فضلاً عن الإبداع. أشاهد الصورة الماضية لموظفين كثر، واسمع هذا"السيناريو اليومي"من زملاء آخرين وهذا مؤشر كبير على أننا نتجه نحو بوابة مغلقة من دون أن نفكر من الأساس كيف نجعلها مفتوحة للداخل إلى موقع عمل، والخارج منه بطريقة أكثر إنصافاً، وعن حال الموظفين الذين ينضمون إلى قائمة التقاعد، يقول نائب رئيس الجمعية الوطنية للمتقاعدين في هذه الصحيفة:"إن نحو 220 ألف متقاعد ومتقاعدة"لا يملكون منازل"وهو عدد يمثل نسبة 40 في المئة من المتقاعدين، مشيراً إلى الأهم وهو أن عدد المتقاعدين الفقراء يصل إلى 30 في المئة من الإجمالي العام"! سأتجه مباشرة إلى حسابات بالغة البساطة، فحين يكون هناك موظف خدم ما يقرب من 30 سنة، ويرغب في التقاعد الباكر، فإنه سيضطر إلى خسارة جزء لا يستهان به من راتبه طالما أن سن الستين هي سن التقاعد الذي يعني التوقف عن العمل والعطاء، وهو مهموم بكيف ينفق على حياته وحياة أسرته بعد التقاعد مع راتب معاشي في حياة أصبحت متصاعدة التكاليف؟ وكلما فكر في قرب لحظة مغادرته كرسي وظيفته ليشغله آخر أكثر نشاطاً وحيوية وتطلعاً للمستقبل، أدرك أن"الراتب التقاعدي"لا يكاد يكفي للإنفاق على عدد أفراد الأسرة الذين عاشوا معه نصف مدة الخدمة فقط. أيضا لا يمكنني أن أضم أسرة لقائمة متوسطي الحال وعائلها يتقاضى الحد الأدنى للمعاش التقاعدي 1800 ريال، وهو ما يحتاج إلى إنسان يشرح كيف يمكن تسيير حياة يحتاج فيها لقضاء متطلبات أسرة بهذا المعاش الزهيد؟ وأسر بهذا الدخل المتواضع لم تعد تفكر إلا في لقمة العيش، أما بناء المنزل فحلم لن يريحهم من همه إلا الموت، في حين أنها لتعيش تنتظر بلهفة مساء يوم 15 من كل شهر لتقبض النزر اليسير من الريالات في حصالة متهالكة يتم الصرف منها بالقطارة على كل حاجات ومتطلبات الحياة! إن إعادة النظر في الحد الأدنى للمعيشة أهم من أن ننظر في خفض رسوم الخدمات على كل هؤلاء، فكثير منهم لم يعد يحتاج خدمة بقدر ما يرغب في معاش مقنع، كما أن تقليص عدد سنوات الخدمة مطلب ضروري، لان الأربعين سنة لن يبلغها إلا من طال عمره لما قد يقرب من أرذله، فلو أخذنا ? كمثال - من تجاوز المرحلة الجامعية بلا تعثر ? كشهادة يمكن ان يرفع بها نسبة الحظ في الحصول على وظيفة - فسيكون أنهى عامه الثاني والعشرين كحد أدنى ولن يكمل أربعين سنة إلا بتجاوز الستين عاماً من العمر، ولذا فالعملية الحسابية لمعاش التقاعد غير عادلة إطلاقاً، وهذه السن مناسبة لمن رزق بوظيفة في سن باكرة ولم يلتحق بالجامعة. دعونا نتأمل فقط في حال موظف يحلم بأن ينهي مشوار حياته العملية بمعاش يحيا به بقية عمره مع أسرته مستور الحال، لا فقيراً يعيش الكفاف أو دونه. [email protected]