من المعروف أن البلدان التي تتقدم فيها البحوث التاريخية مثل المانيا وانكلترا هي البلدان نفسها التي تهتم بدرس"النظريات التاريخية"دراسة موضوعية ونقدية، قائمة على منهج التحليل والقراءة الصحيحة لأحداث التاريخ العالمي بشكل شامل وعميق، يفتقده المؤرخ العربي الذي مارس دوراً سطحياً من الناحية الفكرية انعدم فيها وعيه بدرس وبحث"النظريات التاريخية"، ما يدل على تأخر وعينا التاريخي، فكانت ولا تزال علاقة المؤرخ مع التاريخ والنيل من الحقيقة التاريخية لا تتخطى المكان والموقع والسياسة، وبعض الأحداث التاريخية التي تخلو من الأسلوب التجريبي في الكتابة، ومحاولة قيادة الحقائق والتأكيد على إبراز نقد مفاهيم التراث من حيث اللغة والرموز والإشارات التي تسهم بالفعل في تزويد المؤرخ الاجتماعي أو الأدبي برؤية أوسع للتاريخ، وتساعده على تطوير كتابة وتدوين التاريخ لهدف رئيس يرمز إلى مفهوم الحرية في جوهرها. لهذا فإن المجتمع العربي يخضع في معظمه لمؤرخين لا يتمتعون بفكر أو ثقافة تمنحهم نظرة عميقة وشاملة لمجريات الأحداث التاريخية المعاصرة، فنقرأ من خلال دراساتهم التاريخية اعترافهم بالواقع، ولكنهم يستخلصون نتائج دراساتهم دائماً بتكريس الدعوة إلى شمولية التراث وعدم الحاجة إلى تجاوزه، حتى أصبحت اللغة والتراث هما اللذان يفكران من خلال فكر المؤرخ وليس العكس، ونتيجة لذلك تأتي نتائجهم سلبية من خلال قراءاتهم الخاطئة لمجريات الأحداث أو تغليب انفعالاتهم العاطفية على حساب المنهجية الموضوعية عند تدوين التاريخ، خصوصاً تلك الدراسات والبحوث العلمية التي تتعلق بالتوثيق والتأريخ للشخصيات، وكأن التاريخ العربي السياسي المعاصر بشخصياته وأحداثه أقرب إلى المثالية والنزاهة، بحيث لا توجد أي سلبيات ينتقد بها هذا النظام السياسي أو ذاك من الناحية التاريخية التي أرى أنها من الكثرة بحيث أدت مثل تلك المواقف السلبية الخطيرة بالعالم العربي اليوم إلى وضعه وظروفه القائمة من تجزئة واستغلال استعماري تتصارع من خلاله كل الفئات وبكل الوسائل دفاعاً عن مصالحها، متناسين مسؤوليتنا الفكرية كمؤرخين نمتلك الحكم على المواقف والأحداث بالنتائج وليس بالنيات، خصوصاً أن التاريخ يخضع لحكم"العقل". أما بالنسبة للمسؤولية الفكرية التي يجب على المؤرخ العربي أن يتحملها فهي من وجهة نظري تلزمه أن يدرك بان تدوينه لتاريخ الآخرين هو تدوين لتاريخه، وعندما يتكلم عن الماضي فهو يتكلم عن مستقبله هو ايضاً، وهنا يكون تداخل وتوحد التاريخ مع العمل السياسي من منطلق أن"السياسة ما هي إلا ثمرة التاريخ وحقائقه"، إذ يتداخلان في وعي موحد بموضوعية الأعمال الإنسانية التي هي في حقيقتها واجب يفرضه التاريخ على الجميع، عندها تحديداً يكون لمفهوم النقد الموضوعي دوره التاريخي لإبراز وتحليل ومعالجة المواقف السلبية في تاريخنا من أجل استخلاص الدروس والعبر من النتائج المترتبة عليها ليتم معالجتها وتفاديها لمصلحة ومستقبل الأجيال المقبلة، ومحاولة إيجاد البدائل الايجابية من خلالها التي تحقق النجاح بعد الإخفاق واللحمة بعد التجزئة والمصالح العامة على حساب المصالح الخاصة. في تقديري أن المؤرخ العربي المتخصص في الدراسات المعاصرة أصبح في حاجة إلى إحداث ثورة فكرية تاريخية كثورة عالم الفلك البولندي"نيكولاس كوبرنيك"عندما وضع مؤلفه الرئيس "في الحركات السماوية" التي أسس من خلالها نظرية مركز الأرض للكون، ونظرية مركزية الشمس للكون بحيث وضع الشمس محل الأرض فانقلب كل شيء في ذهن الإنسان، ولم يتغير أي شيء في الكون، وهذا ما يتطلبه المنطق النقدي الموضوعي في درس التاريخ إذا ما رجح على المنطق التقليدي المتبع، عندها سيبقى موقع المجتمعات العربية بين المجتمعات الأخرى كما هي، ولكن ما سيتغير بالتأكيد هو الأوضاع وتبرير المصالح بحيث يحدث المؤرخ ثورة فكرية لا تعنى بقلب أوضاع الحاضر المعاصر وإنما تهتم بإمكان التطوير المستمر في المستقبل مع التأكيد على الاهتمام بعامل الزمان ودوره التاريخي في حلحلة الأزمات أو تعقدها من خلال البحث والدراسة التاريخية في مغزاها، وتحليلها وتفهم جذورها بدقة وموضوعية، وطرح حقائقها بشفافية تاريخية تستند إلى ضرورة إجراء عملية تحديث مستمرة لذهنية المفكر المؤرخ التي يستطيع من خلالها معرفة أسباب وسبر أساس تأخر الذهنية السياسية العربية التي تنظر إلى التاريخ نظرة تقليدية انعكست على إنجازه العلمي، فأصبح هو الآخر يطرح التاريخ بثقافة تقليدية متعثرة ومترددة في تناقضاتها وعدم موضوعيتها. أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]