يعاني التأريخ في لبنان من تسلط الايديولوجيات الظرفية التي تعقّد فهم المسائل العالقة، بقدر ما تسيء الى فهم الماضي واستيعابه على حقيقته. وقد وصلت المعاناة حداً بات معه تجديد التأريخ اللبناني مطلب العديد من رجال العلم والاختصاص. وقد يكون في هذا المطلب ما يعيد الى التأريخ دوره في فهم الاجتماع السياسي في لبنان، واستطراداً إسهامه في المعالجات السياسية للوضع اللبناني القائم تاريخياً. يندرج في هذا السياق بحث الدكتور جان شرف، "الايديولوجيا المجتمعية، مدخل الى تاريخ لبنان الاجتماعي"، الصادر عن منشورات الجامعة اللبنانية، في 527 صفحة، وقد توخّى من بحثه غاية مزدوجة: الاولى "الاسهام في تجديد التاريخ اللبناني على قواعد منهجية تطبيقية، تحرر من الالتزامات الايديولوجية والانفعالات الظرفية، وتعيد الى المنهج العلمي مهمته الاساسية في طرح موضوع حقيقة الماضي والتقرب منها بقدر المستطاع". والثانية "محاولة استيعاب الماضي على حقيقته، بغية فهم ادق للحاضر وادراك البعد المستقبلي لواقعنا بروية وعقلانية". وهكذا، يصبح التأريخ في طلب معالجات الحاضر. فالباحث ينطلق من التساؤل حول طبيعة ازمات لبنان المعاصر، ومدى إمكانية ادراجها في سياق الزمن الطويل، انطلاقاً من خلفيات مجتمعية شكلت عامل استمرارية الجماعات، بقدر ما هيمنت تلك الخلفيات على الحركة التاريخية، وتحكمت بصيغة الاجتماع السياسي في لبنان الامارة والجمهورية. يجيب الباحث عن هذا التساؤل بالايجاب، اذ يثير اولاً المسألة المنهجية انطلاقاً من ثنائية التأريخ كما طرحها ابن خلدون: بين "الخبر" و"العلم" تكمن المفارقة الاساسية في التدوين عند تناول "الاجتماع الانساني" بالبحث. وتزداد هذه المفارقة حدة بقدر ما يظهر هذا الاجتماع من غنى وتنوّع وتقطع واستمرارية في حياة الافراد والجماعات. من هنا تبرز العلاقة بين المؤرخ ومجتمعه، اذ هي علاقة معرفة وليست التزاماً، ضمن حدود المكان والزمان. ولادراج هذه العلاقة بين المؤرخ ومجتمعه في سياق الزمن الطويل، يعرّف الدكتور شرف، ثانياً، بالازمة اللبنانية. فهي "حدث تاريخي. وكحدث هي موقف كلي من الواقع يتناول الانسان والمجتمع والوطن والتاريخ، ويتميز بموقف من الماضي وبارادة التغيير في الحاضر وبالتطلع الى المستقبل". من شأن هذا التحديد ان يضع الازمة في المسار التاريخي الطويل، وان يثير بالتالي مشكلية الزمن المجتمعي على مستوى الوجدان التاريخي والفعاليات البشرية معاً. واذا كانت المرحلية سمة المسار التاريخي، تبعاً لظروف المكان والزمان، فان مؤثرات عملية تنعكس في عملية التدوين، بقدر ما تحد من "علمية" البحث المنهجي. لذا، يتوقف الباحث عند ثلاثة من هذه المؤثرات وهي: 1- العلاقة بين التراث والتأريخ: فالتراث الذي يتكون عبر التاريخ بالفكر والممارسة، هو المدخل الى تاريخية الكائن، بقدر ما يشكل هذا التراث الاطار الذهبي للعديد من افكارنا ومواقفنا واحكامنا على الآخرين استناداً الى "مسبقات سلطوية" او "مسبقات ترسبية" تختصر روحية التراث، تجعل منه غاية المسار التاريخي عبر حركة استرجاعية للماضي. فلكل تراث حركة تخصه وذهنية تحتضنه، او قابلية تطوره باضافة مكتسبات جديدة هي بمثابة النقد الضمني للتراث، او باغنائه بخبرات جديدة تكسب الانسان فعالية اقوى في الحركة التاريخية. وفي الحالتين، فان الانسان يطرح تأريخه بنفسه من خلال مواقفه من التراث. 2- العلاقة بين التأريخ والبيئة المجتمعية: والبيئة المجتمعية هي وضعية متحركة فاعلة ومنفعلة، تكتسب تاريخيتها في المدى القصير، لكنها في المدى الطويل، معطى تاريخياً يحدد شكل انتمائنا الى الماضي وعوامل ارتباطنا به. الا انها تظل بالنسبة الى المؤرخ الحقل الاختباري للمعرفة التأريخية. من هنا تطرح شكلية المعرفة في البحث التاريخي عبر مدارس التاريخ ومن خلال ترسبات التراث. ولابراز اهمية هذه الشكلية يتوقف الدكتور شرف ببعض التفصيل عند حالة فخرالدين الثاني من خلال مدوّنين للاخبار، الخالدي والمحبي، وبعض كتبة التاريخ المعاصر ليظهر من ناحيته، التعارض الشكلي في سياسة الامير بين الزمن السياسي المتقلب والزمن الشرعي الثابت، وحدود التقائهما عند خلفية تراثية واحدة. وليبيّن من ناحية ثانية، حضور فخرالدين في كل مكان وزمان عبر وقوع التاريخ تحت وطأة المؤثرات التراثية والمجتمعية، وتخليه عن "البينات الموضوعية" التي تظل المرتكز الاساسي لدراسة اي حالة تاريخية، والمستند الاهم للمعرفة التاريخية. 3- العلاقة الايديولوجية بين الحاضر والماضي: وتزداد الاشكالات المنهجية في البحث التاريخي نتيجة انعكاس التصور الايديولوجي للمستقبل على الماضي، ويتحول الماضي الى بعد مستقبلي، ففي هذه الحالة، يصبح الماضي المجال الرحب للتطبيق الايديولوجي، مما يؤدي الى اسقاطات تسهل عملية "اغتصاب الماضي" و"الصناعة التأريخية" التي تجتهد في "انتاج" الماضي ضمن مشروع متكامل في ذهن المؤرخ، وعلى اساس النموذج - المثال الذي تفرزه الايديولوجيا. ففي غياب الانسان كفرد وكجماعة، في الزمن التأريخي، يتضاءل وجود الماضي بذاته كبعد زمني للاجتماع الانساني، ويتبوأ الانسان المنتمي مركز الصدارة في البحث التأريخي. من هنا يصبح الماضي موضوع مشادة بين الكتبة والمؤرخين وليس مجال معرفة بين الباحث وحقيقة الماضي. لا يكتفي الدكتور شرف بالتحليل العلمي النظري في الفصلين الاولين من كتابه، انما سرعان ما ينتقل الى التطبيق العملي بممارسة النقد على اخبار فخرالدين الثاني، او باظهار عوامل الجدل المفتعل حول هوية لبنان وانتمائه الحضاري ليبرهن اسباب الاعتراض على التاريخ الماروني للبنان ومحاولة كل جماعة استرداد حقها في هذا التاريخ، ليخلص بالنتيجة الى ضرورة اعادة النظر في النهج الموسوم ب"العلمي" كما يمارسه بعض الكتبة والمؤرخين. فالنهج التاريخي عند العديد من الكتبة والمؤرخين المعاصرين يتميز بالشكلية في نظر الدكتور شرف، تلك الشكلية التي تأخذ عند البعض منحى "التقويم" لاحداث الماضي، وعن آخرين "بالاستنساب" تبعاً للمسلمات الايديولوجية خصوصاً الظرفية، او للمسبقات التراثية التي تتحكم بذهن المؤرخ وبمنهجه، وفي مختلف الاشكال، يدور التاريخ حول النزاعات الايديولوجية التي تجعل من حقيقية الماضي مسألة هامشية يخرج فيها الانسان كفرد وكجماعة، عن كونه موضوع التاريخ. مما يستتبع حتماً تضاؤل الماضي زمنياً وتاريخياً، ويفقد النهج ميزته الاساسية كوسيلة للمعرفة. وللخروج من هذه الاشكالات المنهجية، يتوقف الدكتور شرف بدقة عند النهج العلمي الذي له ميزات تخصه بذاته وبالتطبيق. واولى تلك الميزات انه يطرح موضوع حقيقة الماضي ومحاولة التقرب منها بقدر المستطاع. فالماضي كبعد زمني في الاجتماع الانساني، هو معطى موضوعي حقيقته في ذاته. فما مضى قد مضى. وليس من وسيلة لاستعادة ما مضى الا المعرفة التاريخية التي يشكل المنهج وسيلة ممارستها. وهي تفرض بذاتها العلمية والموضوعية التي تبدأ بوجدان المؤرخ وذهنه وتفكيره، ليتناول الباحث من ثم الماضي الذي يتميز بوجود يخصه وقد تعرض للاحوال عبر المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه. من هنا تولد من ناحية الثنائية، بين المؤرخ وموضوعه على غرار العلوم التطبيقية، ويظهر من ناحية ثانية، الفرق بين التاريخ "كفن وكعلم". فالاول لا يعدو كونه اخبار عن العصور الاول، والثاني "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق..."، حسب التعبير الخلدوني. وللتوصل الى "التحقيق والتعليل" يتوقف الباحث عند مواصفات المنهج العلمي وشروط تطبيقه في البحث التاريخي، ليخلص من ثم الى طرح مسألة المنهج العلمي الاستيعابي الذي يستخرج المعنى الذي كان ممكناً عند الذين عاشوا الاحداث او انتجوها. وهو الشكل الذي سماه ماكس فيبر "الاستيعاب الايضاحي في مختلف انواعه"، وبمعنى آخر، ان المنهج العلمي يطرح موضوع حقيقة الماضي، و لمقاربة هذه الحقيقة لا بد من النظر الى الماضي كحقيقة بذاته ولذاته. ويجد هذا الموقف العلمي من الماضي تطبيقه في التعريف الذي يعطيه الباحث للتاريخ الاجتماعي اذ هو تاريخ الانسان كفرد وكجماعة في ذاته وفي علاقته بالآخرين، وما يعرض له وما يطرأ على تلك العلاقة من احوال في الزمن الطويل". ينهي هذا التعريف المسألة المنهجية في البحث التاريخي لينتقل الباحث من ثم الى المسألة المجتمعية في التأريخ. وبعد ان يبحث هذه المسألة من خلال مدارس التاريخ، يعود الدكتور شرف الى تحديد التأريخ الاجتماعي وتطبيقه على تاريخ لبنان الامارة منذ القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر. والمشكلة المطروحة تاريخياً ومجتمعياً من خلال هذا التحديد والتي تمت بصلة وثيقة الى لبنان المعاصر هي الآتية: ما هي المرتكزات التي جعلت من الطوائف في لبنان وحدات متمايزة؟ وما هي العوامل التي أمنت استمرارية هذا التمايز بالرغم من تعايش الطوائف مئات السنين ولم تزل؟ ولماذا لم تنجح المحاولات الايديولوجية التي استوحت النماذج الغربية، في حل مشاكل لبنان المعاصر دولة ومجتمعاً ومؤسسات دستورية؟. يرى الباحث ان المعالجة وقعت في "الخطأ الايديولوجي" الذي تجاهل تركيبة المجتمع بذاتها، ليتناولها من الخارج وفي ضوء التجارب الغربية. بينما ظلت التجربة اللبنانية على هامش التاريخ والبحث العلمي. فاستمرارية الطوائف زمنياً ومجتمعياً مع كل انعكاساتها السياسية، يجعل منها ظاهرة موضوعية قابلة للدراسة العلمية، ودراسة كل طائفة اولاً بذاتها، تكشف عن مرتكز وجودها وتمايزها وعوامل استمراريتها في ما أسماه الباحث "الايديولوجيا المجتمعية"، وهي مجموعة من القيم والمفاهيم التي تحدد نظرة الجماعة الذاتية الى الانسان والمجتمع والتاريخ والكون، والتي تحدد طبيعة العلاقات التي يمكن ان تقوم مع الآخرين. "فالجماعة أو طائفة اي طائفة في لبنان هي وجدان مكوِّن ومكوَّن في آن معاً، تعتبر نفسها وحدة متمايزة يتكامل فيها الدين والاجتماع والسياسة عبر سلوك الفرد ونشاط الجماعة، فينتج عن ذلك أمور ثلاثة: 1- ان وحدة الجماعة تاريخياً ومجتمعياً، هي وحدة تكوينية بمعزل عن توزعها الجغرافي وحجمها الديموغرافي. 2- ان الجماعة ترفض الخضوع لسلطة من خارجها مهما كانت عوامل التحوّل. فهي تستأثر بالسلطة لنفسها، او على الاقل، تتمسك بالمشاركة الفعلية في هذه السلطة لتظل متساوية مع الآخرين. وأي خلل في هذا المجال يثير القلق والخوف على المستقبل. 3- ان العلاقات مع الآخرين، لا تعود كونها علاقات وظيفية تلبي حاجات متبادلة، دون ان تتحوّل الى علاقات بنيوية او انصهارية قد تخرج الذات الجماعية عن خصوصيتها وتمايزها. تجد هذه الامور أو قواعد السلوك والنشاط عند الجماعة، تطبيقاتها العملية في "حرب الشوف" مع والي دمشق طوال القرن السادس عشر، حفاظاً على استقلالية الجماعة ورفض سلطة الوالي المباشرة عليها. وانطلاقاً من التسليم بخصوصيات الجماعة، نشأ منذ أواخر القرن السادس عشر، المجتمع المختلط في بلاد الشوف تلبية لحاجات متبادلة - فكان "نظام التعايش" الذي قام على قواعد ثلاث: أ- الاعتراف المتبادل بالخصوصيات وحق التمايز عن الآخرين. ب- التسليم بالحريات الاساسية وفي مقدمتها حرية المعتقد. ج- حق الملكية والتبعية السياسية للاعيان، اذ ان مشكلة السلطة لم تطرح بعد. فالنازحون من جبل لبنان الشمالي الى كسروان وبلاد الشوف لم يحملوا معهم اي مشروع سياسي، بل جل ما سعوا اليه هو المدى الاقتصادي الآمن. الا ان تزايد النازحين الى بلاد كسروان والشوف جعل من النمو الديموغرافي عامل تحوّل مهم استتبع تحوّلات في الاقتصاد عن طريق عقود شراكة الشلش، والاجتماع عن طريق تحوّل بعض الثروات الى النازحين ومنافستهم للاعيان التقليديين، ينتهي بهم الامر في عهد الامارة الشهابية الى طرح مشكلة الاجتماع السياسي الذي يقضي باعادة النظر في تولي السلطة وتوزيع الصلاحيات على اساس التفاوت الكمي والنوعي بين العناصر التي يتألف منها مجتمع الامارة. فاذا كان الميثاق الشهابي الذي نقل الامارة من المعنيين الى الشهابيين قد نظم الحكم في الجبل وفق قواعد السلوك السياسي الموروثة بين الاعيان التقليديين من ناحية، فانه من ناحية ثانية، احتفظ للاعيان بالسلطة الفعلية المباشرة على الجماعات، وجعل بالتالي من الامير الشهابي "الغريب الدار"، حكماً بين هؤلاء الاعيان، يتولى السلطة ولكنه لا يحكم. فالميثاق اتفق عليه اساساً لانقاذ الدروز من غضب السلطنة العثمانية المحتمل. الا ان مرحلة التحولات 1697 - 1774 الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية في اطار مجتمع الجبل والسلطة العثمانية احدثت من المستجدات ما أحرج وضع الامير الحكم، وأدى الى مرحلة الصراع والفوضى السياسية 1775 -1804، واذ انشأت ازمة داخلية حول السلطة تنافس فيها الامير والحزبيات الجنبلاطية واليزبكية والنكدية. وبمحاولة الامير التحول الى حاكم خرج على الميثاق الشهابي، فاشتد الصراع الداخلي، وهدم "الجدار الجبلي" الذي احتمى وراءه الجبليون، فتسنى للجزار والى صيدا، ان يستغل وضع الامارة ويذلّ اعيانها ويبتز اموالها. فتضاعف الصراع السياسي بازمة اقتصادية وأمنية، وجد اثناءها فرقاء النزاع ان "لا احد يستطيع اخذ البلاد بالغلبة"، فكان لا بد "من المراسلة في أمر الصلح والسلامة" وتسوية الخلافات باعادة النظر مرحلياً في كيفية ممارسة السلطة من قبل الامير والاعيان، لتشكل من ثم الامارة جبهة داخلية موحدة بوجه الجزار، وكفّ يده عن الجبل. نجحت الجبهة الداخلية، الا ان رواسب الازمة السياسية حول السلطة ومن اجلها، ظلت تتفاعل، وزادت حدة بعد محاولات بشير الثاني ارساء الدولة على قواعد السلطة المركزية التي تقوم على مبادىء العدالة والمساواة، فكانت ردود فعل متفاوتة بين الجماعات يمكن اختصارها بالآتي: 1- ان التحولات وعوامل التغيير يمكن ان تبدّل في معالم المجتمع الحضارية، انها لا تقضي على خصوصيات الجماعات المتعايشة، كما انها لا تنفي تاريخية الجماعات لتبدل في شروط اجتماعيتها. لا بل ان وسائل التنمية تزيد في وعي الجماعات لذاتها بقدر ما يؤدي التفاوت في عملية التنمية الاقتصادية والسياسية الى الشعور بالغبن، ما يدفع الى التطلّع الى السلطة او على الاقل، المشاركة الفعلية فيها. 2- ان انتظام الجماعات في دولة وحدوية مركزية او مركبة، مشروط بممارسة السلطة المشاركة الفعلية فيها، وعلى مختلف درجات المسؤولية. فالسلطة في هذا المجال ليست ارادة فوقية، ولا هي حق شعبي لا هوية له. انما السلطة معطى تاريخي - مجتمعي تتمتع بها الجماعات وتمارسها على نفسها قبل نشوء الدولة. والتنازل عن السلطة لصالح جماعات اخرى او اكثرية معينة، يعني التنكّر للذات التاريخية والتخلي عن خصوصيات هي علة وجود الجماعات وتمايزها، وان استغلت تلك الخصوصيات لمآرب معينة على الصعيد السياسي. وبالتالي، ان مبدأ الدولة كسلطة فوقية، امر مستحدث في وجدان الطوائف، يحمل بذاته تناقضاً مع الوجدان التاريخي، ويجعل من حضور الماضي غربة تشد الجماعات الى التمرّد والثورة من اجل استرداد الماضي او تكييف الحاضر مع معطيات هذا الماضي. لذلك، غالباً ما تتنازع الجماعات ابان الازمات التاريخ من حيث هو مصدر وجودها، ولتأكيد حقها في الاستقلالية. تستتبع هذه الاستنتاجات وغيرها التي يزخر بها الكتاب، تساؤلات اساسية منها: هل ان ما خلقه تاريخ الامارة الاجتماعي من تجارب سياسية بحكم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، يمكن ان يعتمد تفسير الحركات في القرن التاسع عشر، ما رافقها من تعديلات دستورية ارست التعايش على قاعدة السلطة المركزية؟ واستطراداً الى اي حد لم تزل المعطيات المجتمعية لتاريخ الامارة فاعلة في الاجتماع السياسي في لبنان المعاصر؟ وحصراً في الجدل القائم حول السلطة وتوزيع الصلاحيات في الدولة اللبنانية وارتباط كل ذلك بخصوصيات الطوائف وديموغرافيتها؟ يتوقف الدكتور شرف في بحثه عند ثورة 1840 وباختصار، الا انه يعتبر ان النظرة المنهجية الى حقيقة الجماعات في تاريخ لبنان الحديث على الاقل، تشكل المدخل الى فهم ثبات الجماعات على خصوصياتها في الزمن الطويل، والى ادراك اهمية المشاكل والقضايا التي طرحها تعاطي هذه الجماعات مع بعضها بعضاً في التعايش و"الاجتماع السياسي". يضاف الى ذلك، حسب الباحث، ان تحديد الايديولوجيا المجتمعية كمرتكز للتاريخ الاجتماعي، يتيح الوقوف على جذور تلك المشاكل وطبيعة تلك القضايا التي لم تزل موضوع صراع في الكيان اللبناني، بقدر ما تسمح بتصوّر الحلول الملائمة لها". وهكذا، يعود التاريخ في منهجية الدكتور شرف، الى صلب معالجات الحاضر، وهو في هذا المجال، لا يقف لا مبالياً امام الواقع اللبناني المزمن، بل يضع مقياساً لعملية تطوير هذا الواقع، ولكن انطلاقاً من قدرة الجماعات وقابليتها على تطوير نفسها من الداخل وانفتاحها على الآخرين وعلى قدم المساواة بحكم كينونتهم الانسانية وليس على اساس انتمائهم المذهبي، ومقياس التطوير عندئذ هو في مدى حدوث التراتب بين الدين والاجتماع والسياسة، او في مدى الحفاظ على التكامل بين هذه المجالات كاطار لتحديد كينونة الانسان وشروط تعاطيه مع الآخرين في الاجتماع السياسي. قد يكون في هذه العجلة بعض الثغرات التي لا يمكن سردها بسهولة، نظراً لما يزخر به البحث من جديد على صعيد المنهجية، واستعمال تعابير تقنية جديدة ليست مألوفة في الكتابات التاريخية كمفهوم الزمن، والوجدان التاريخي واعطائه كامل ابعاده عبر تقاطع علوم الانسان، من علم الاجتماع الديني الى الاقتصاد والديموغرافيا، الى السياسة والنظم الدستورية والجغرافية، وقد يكون في هذا التقاطع ما يجعل من الايديولوجيا المجتمعية محطة في التاريخ اللبناني، ولكنها في آن معاً، موضوع مناقشة واختيار ونقد. وكل ذلك يتوقف على مدى ادراكنا لاهمية حدوث الماضي في تكوين حاضرنا، والتطلع الى مستقبلنا "بروية وعقلانية".