إذا كانت الثقافة هي الركيزة للبعد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري، كونها تشمل أسلوب الحياة في الأمة والجماعة على اختلاف مظاهرها، فإن دور المثقف في المجتمع هو دور عضوي يحدد من خلال وعيه الاجتماعي الذي يمكنه من رؤية المجتمع وقضاياه في رؤية شاملة، وتنطلق رؤيته الباطنية من وصفه مفكراً يمتلك طاقة فكرية واسعة في نظرتها للأحداث، وعميقة في توغلها إلى جذور الحاضر ويتخطى ما هو قائم ومطروح ويجتهد أن يكون فاتحاً لدروب قد تبدو جديدة أو ريادية تستحق من يحاكيها ويعمل من أجل تطويرها. والفكرة التي أطرحها اليوم أبحث من خلالها في واقع الأمر عن دور المفكر المثقف الذي يحمل رسالته الدالة والساعية إلى التوجيه الاجتماعي ? الثقافي الصحيح من خلال إيمانه المطلق بدوره المفترض في المجتمع والقائم على تناول قضاياه بكل صراحة ووضوح، والتوغل في صلب الحقائق وكشفها من أجل الوصول إلى معالجة الحالات المرضية الاجتماعية من منظور فكري نقدي يوقظ فينا الأمل من جديد بوجود مثل هذا"المفكر المثقف"الذي يقدم حياته إلى قضية أو هدف اجتماعي، يصبح مصيره من خلاله متحداً مع مصير قضيته بقوة تضعه دائماً في خدمة ما يجب أن يكون وليعلن أفكاراً ذات قيمة مدنية اجتماعية أو سياسية. لقد أصبح شأن المثقف في وقتنا الراهن من الناحية الاجتماعية يعكس إخفاقه المطلق لأنه أضحى"عالة"على من يقدم له قوت يومه وسمنه وعسله فتقاطع دوره عند اصطدامه بالواقع، وبدأ يفصل بين آماله وبين حال مجتمعه فصلاً تاماً، شأنه في ذلك شأن المهندس الزراعي الذي رأى في الشجرة غصناً تالفاً فرفع مقصه واجتث الغصن من دون أن يكلف نفسه عناء فحص الشجرة والتربة وكفاية الماء أو قلته، ليكشف بذلك عن أبرز مواصفات زمانه التي تتسم باليأس والضياع ومأساة الواقع، والشكل الأمثل للنعيق في الخراب. إن دور المثقف بات ضيقاً ومحصوراً في دائرتين لا ثالث لهما، إما بسبب ما يقدمه من طروحات نظرية عن البناء الاجتماعي المفترض من منطلق انتمائه البرجوازي الليبرالي، فلم يتمكن من الوصول إلى وجدان الفرد وذاته الداخلية، بل اكتفى بالشكل الظاهري المجرد لهيكل المجتمع، ولهذا السبب أصبح دوره ضيقاً في منطلقه وأفق رؤيته نتيجة لمحدودية طاقته الفكرية التي لا تساعده على التوسع المعرفي أو التقاطع الثقافي. أو من خلال دور محدود للغاية لمثقف يحاصر عقله بسياج من الانعزال الفكري في الوقت نفسه الذي يفتح فيه المجال واسعاً للهجوم على كل من يعوق طريقه بثقافات أخرى مضادة في واقعها للطبائع والأعراف والتقاليد المتوارثة. فلا يؤمن بضرورة العمل على اقتلاع الموروث من جذوره وإخضاعه للفحص العلمي النقدي، ولا يستطيع أن يتصالح مع ما هو مضاد للثقافة الموروثة والسائدة في المجتمع، خصوصاً أن الطبع الثابت لا يسمح بشيء خارج عنه، ولا يخالط إلا ما كان شبيهاً به ويضع جانباً أكثر ما يتعرضه، وهنا يكون العنف هو السبيل الوحيد الذي يحكم العلاقة بين هذين النوعين من الثقافة، سيما أنها تطرح أيديولوجيات مختلفة تماماً عن بعضها. وهل تتحمل الأمة التي ما زالت تنظر إلى مستقبلها على أنه أمامها بروز مثقف الإخفاق المطلق كبديل عن الفكر الملتزم؟ إن مكانة المفكر المثقف لا تكتسب إلا من خلال وعيه ويقظته العالية بموقعه، وبقلقه الشديد على القيم الفكرية والثقافية، ومقارنته المتواصلة بين الواقع الذي يعيشه مع العالم الخارجي، أو مع تجارب مجتمعات أخرى بحيث تجعل منه إنساناً أكثر حيوية والتصاقاً مع دوره في الوقت نفسه، وهذا ما يجعل مكانته الثقافية متحركة نحو أهداف أكثر تعمقاً وأوسع قطراً في المحيط الاجتماعي. إن ثقافة أثينا العالمية ما كان لها أن تنبثق من غير الاستفادة والاقتباس من بابل ومصر، وأن الحضارة الإسلامية ما كان لها أن تتقدم وتزدهر إلا من خلال فتح المجال واسعاً أمام نشاط حركة"الترجمة"إلى اللغة العربية من مختلف الحضارات الأخرى اليونانية أو الفارسية أو الهندية التي ازدهرت عن طريقها الفلسفة والعلوم والفنون والآداب الإسلامية. وأن تعاليم أرسطو والفلسفة اليونانية بشكل عام ما كان لها أن تعود مرة أخرى إلى قلب أوروبا لتنهض بعد ظلمات"القروسطية"وعبر حركة الدوران للتاريخ الإنساني والحضاري لو لم يكن ذلك بفضل عمل المفكرين والعلماء المسلمين من أمثال"ابن سينا وابن خلدون وابن النفيس وابن رشد"وغيرهم. إن غياب النقد العلمي البناء، وغياب النزعة الشكاكة حيال كل أمر من الأمور العلمية والفكرية عن ذهنية العالم المفكر أو المثقف، والاكتفاء بالموقف التعميمي القائم على تناول قضايا المجتمع بشكل عام والمميز في معظمه بعدم الدقة والموضوعية في الطرح أو إيجاد الحلول للمشكلات جعل دور المثقف بعيداً عن إدراك معنى أن الفكر ليس بضاعة والمفكر ليس موظفاً، وأن حريته يجب ألا تحشر إطلاقاً في ما يجب أن يكون عليه، أو أن ينتظر منحه جواز سفر لكي يفكر، إن الفكر رسالة، والمفكر المثقف صاحب قضية، والصوت الواحد أصبح في هذا العصر لا يمثل أكثر من فوضى مؤلمة. إن جميع المجتمعات العربية لا تزال خارج التاريخ بسبب قناعتها بالرضوخ لقلب المعادلة حتى أصبح المقدم تالياً، والعربة هي التي تجر الحصان، وظل المفكر المثقف مع كل ذلك عرضة للخيبة والفشل بسبب سيطرة مثقف الإخفاق على الساحة الثقافية حتى أصبح يتقدم بمجتمعه إلى الخلف. وما زال الواقع الراهن تلخصه رؤية لأحد الحكماء الذي يسأل عقله"لماذا الذي كان ما زال يأتي؟ فيجيب"لأن الذي سوف يأتي ذهب!". * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر [email protected]