إن الشأن في دين الإسلام أنه دين الفطرة، فكل ما فيه من عقائد وأحكام وأخلاق تتوافق وتتلاءم مع فطرة الإنسان ولا تتنافر، ومن مقتضيات الفطرة إزالة الأحوال الفاسدة المنافية لطبيعة الإنسان وجِبلَّته من شِدَّة وَيُبس، فكل سلوك وخلق يُنافي اليُسر ويورث الضيق والمشقة، ليس من فطرة الإنسان، ومِن ثمَّ فليس من خلق هذا الدين، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، وهذا هو مقصود الشارع الحكيم في قوله تعالى يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ فلا مشقَّة ولا عنَتَ ولا حرج على البشر في أخذهم بمبادئ هذا الدين وتشريعاته، ولتأكيد هذا المعنى بَلغتْ أدلَّةُ رفع الحرج مبلغ القطع. كما أن من مقتضيات الفطرة تتميمُ مكارم الأخلاق بتقرير الأحوال الصالحة لا بإبطالها، فقد روى البخاري عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أرأيت أموراً، كنتُ أَتَحَنَّثُ - أي أتعبَّد - بها في الجاهلية، مِن صدقة أو عِتاقة وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ"قال الإمام المازري:"الخيرُ الذي أسْلَفَهُ كُتِبَ له"وهذا هو شأن الحنيفية السمحة. إذا تأملنا هذا المعنى، فإن من الظُّلم أن يَعمدَ أناسٌ في سبيل بيان حقائق هذا الدين، وفي سبيل الدعوة إليه، إلى مخالفة هذه الآداب بفعل ما يُناقضها، فلا مجال للدعوة إلى الدين الحقِّ بِغير مكارم الأخلاق، من تهجُّمٍ وانتقاص للآخر، ولا بالتحايل والكذب، فضلاً عن استباحة المال والعرض والدم، مما نراه اليوم يملأ مواقع الإنترنت، فإن هذا الدِّين أجلُّ وأعظم من أن يُنصَرَ بالسُّبُل الوضيعة، وإنما يُنصر بالوسائل التي تليقُ به، وهذا هو هدْيُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وإن الناظر في أحوالنا ليسوؤه جداً ما يراه من بُعْد كثير من المسلمين اليوم عن هذه القيم بُعداً هيّأَ النفوسَ للدخول في صراع مرير بين عدد ليس بالقليل من أبناء السنَّة وأبناء الشيعة، يظهر على صفحات الإنترنت، وكذلك في أشرطة صوتية، وربما ظهر في الفضائيات، ونحن اليوم نرى انعكاسه على الأرض في العراق وفي باكستان، وهو مظنَّة توسُّعٍ وانتشار إن لم يَقف العقلاءُ دون انتشاره. ومن مظاهر استياء العقلاء من هذا الواقع المر، ما عبَّرت عنه رسالة وصلتني قبل أيام من شابٍّ متألِّم مما نحن عليه، وقد جعل عنوان رسالته: لستُ سنياً، ولستُ شيعياً وكان مما قال فيها:"ألم يئن الأوان يا مسلمون أن نعيد تقويم الفرق والمذاهب الإسلامية لنستخلص منها الحق الذي نصل به جميعاً إلى رضا الله وجنته؟". إن مصدر أهمية هذه الرسالة أنَّها خرجت من قلبٍ يعتصره الألم من خروج بعض المتنازعِين عن الآداب الإسلامية في الحوار، ومن التنابز بالألقاب، ومن الدماء التي تسيل، فهي نداءُ الفطرة، ونداءُ الضمير الإنساني الحي، إذ إنها لَم تخرج من هذا الشاب إلا بعد أن اشتدَّ عليه ما يعتلج في صدره، فأفرغه في كلماتٍ كتبها، وأرسلها إليَّ وربما إلى غيري، كما يُرسل الحزينُ نَفَسَه، ويبثُّ هَمَّه وكمَدَه. وبعد هذه الرسالة بأسبوع وصلتني مقالة عنوانها التقريب بين المسلمين مهمة السُّنة قبل غيرهم أكَّد كاتبها أهمية التقريب، وعلَّل إلقاء مسؤوليته على السُّنة بأنهم يمثلون الأغلبية، وبأن الحكم بيدهم، وبأنهم يكفِّرون الشيعة من حيث يُقرُّ الشيعة بجميع المذاهب الإسلامية - هكذا قال -. وأشار إلى أن الشيعة تعرضوا لاضطهاد تاريخي، وأنهم مُتَّهَمون في انتمائهم للإسلام من بعض السنة، وأنهم متَّهَمون بالتقية والسرِّية، وهذا ما يجعل مهمة التقريب في رأي الكاتب من مسؤولية السنَّة. ولعلَّ من العدلِ القولُ بأن المسؤولية يجب أن تكون مشتركة وليست على واحد من الطرفين من دون الآخر، فالوصول للحق يقتضي تعاوناً بين الطرفين، وإزالةُ الأفكار الخاطئة ليست مسؤولية المصيب وحده وليست كذلك مسؤولية المخطئ وحده، فكما لا يُقبل من المخطئ التمادي على الخطأ، كذلك لا يُقبل ممَّن يَظُنُّ أنه مُصيب أن يَستفزَّ مشاعر المخطئ. والإنسان إذا فكَّر وتأمَّل تأمُّلاً نظرياً مجرداً، فإنه سيطير بأجنحة آماله وأحلامه إلى عالم المثال والخيال، فالنظرة المثالية البسيطة تقول بأن الحوار يتبعه تقارب في الرأي، وسيؤول هذا التقارب إلى ذوبان المعاني والأفكار الفاسدة، لِيَصير الناسُ عَقِبَ ذلك إلى الحقِّ الذي ينشده كلُّ البشر، وفيه يعيشون الأمل المنشود والسعادة العظمى، هكذا بِلامِ العاقبة والصيرورة، التي كانت أملاً وحُلماً طالما تغنَّى به الشيوعيون، والأملُ كما قيل: رفيقٌ مونس، إن لم يُبْلِغك فقد أَلْهَاك. وبعيداً عن عالم الخيال، فإن الغرض المقصود إذا كان لا يُدْرَكُ كله، فليس من العدل أن يُتْرَكَ كله. والناظر في حال المسلمين في شكواهم من التفرُّق، يجدهم مِثلَ مَن يشكو الظَّمأ والماءُ في لَهَواتهِ، ففي الآداب الإسلامية، وفي القواعد الشرعية، أساسٌ متين يَلمُّ شمل الناس مِن شتات، ويجمع كلَّ معتصمٍ به، فالمتأمِّل قد يجد أن أي حوارٍ بين طائفتين من المسلمين - والأمر كذلك بين المسلمين وغيرهم - يُرادُ له النجاح، فإن نجاحَهُ رهينٌ للقاعدة الصُّلبة التي يُبنى عليها الحوار، والذي يظهر لي أنها تتمثل في أمرين: الأول: أن يَكُفَّ أتباعُ كلِّ طرفٍ عن الإساءة للآخر، بالالتزام بآداب الشرع الشريف التي جِمَاعُها حُسن الخلق، فقد كانت آخر وصيَّةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وهو ذاهبٌ إلى اليمن"أَحسن خلقك للناس يا معاذ"، ومِن شأن حُسنِ الخلق أن تتهذَّب به النفوس فلا تعتدي على الغير، لا في ماله ولا في عرضه ولا في دينه، بل يكون بسببه للنفس زاجرٌ لها مِن داخلها، يحول بينها وبين الظُّلم، وبهذا هذَّب الإسلامُ نفوسَ أوَّل الداخلين فيه من عرب الجزيرة، على رغم ما جُبلوا عليه من مَنَعَة وشدَّة بأس، فقد كانوا في الجاهلية يقابلون السيئة بالأسوأ، كما قيل: فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا، فلما جاء الإسلام هذَّبهم، كما قال أبو خراش الهٌذَلي في قصيدةٍ رثَى بِها ابنَ عمِّه زهيرَ الهٌذَلي، وقد قتله جميلُ بن معمرٍ يومَ حنين: فَلَيسَ كَعَهدِ الدارِ يا أُمَّ مالِكٍ وَلكِن أَحاطَت بِالرِّقابِ السَلاسِلُ وَعادَ الفَتى كَالكَهلِ لَيسَ بِقائِلٍ سِوى العَدْلِ شَيئاً فَاِستَراحَ العَواذِلُ فهو يقول: إننا بتهذيب الإسلام لنفوسنا أصبحنا في مثل السلاسل، وإلا لَقَتَلْنا قاتِلَه، فالإسلام هذَّبَهم، واضطرَّهم إلى الخضوع للقانون والالتزام بالنظام. فهذه المكارم لم تكن تُقاةً يَتَّقون بها، ولا تصنُّعاً لغيرهم، لا خوفاً منه ولا مداراةً له ولا تحبُّباً إليه لِجَرِّ مودَّة أو لدفع عداوة، وإنما التزم بها الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم تديُّناً، واستقرَّت في نفوسهم حتى صارت سجية وخلقاً، فتحقَّقوا بهذا المعنى غاية التَّحَقُّق، وبه فُتِحَتْ لهم الدنيا، فانتشر الإسلام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وبِفَقْدنا له في هذا العصر أظلمت علينا الدنيا، وغُلِبنا وصِرنا إلى حالٍ لا نُحسد عليها، بل أصبحت الأُمم تُشفق علينا مما نحن فيه. وهذا الخلق تشريعٌ نجده في نصوص الفقهاء، فقد قال الحافظ أبوبكر بن العربي عن حقوق أهل الكتاب الذين يعيشون في بلاد الإسلام"والذِّميُّ كالمسلم في مالِهِ ودمِهِ وعِرضِه"فلا يجوز أَخذُ مالِه ولا الاعتداء على دمه ولا المساس بعرضه. ومن أجمل ما قرأته في هذا المعنى ما جاء في كتاب ترتيب المدارك للقاضي عياض - رحمه الله - أن أحد نصارى العراق وهو عبدون بن صاعد، حين دخل على القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد المتوفَّى282ه وهو أحد أئمة زمانه، فقام القاضي له ورحَّب به، فرأى إنكار الشهود ومَن حَضَرَ، فلما خرج عبدون قال القاضي لهم: قد علمتُ إنكارَكم وقد قال الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، قال: وهذا من البِرِّ. وهكذا يَسَعُنا ما وَسِعَ سيِّدَ الشجعان سيدنا علياً عليه من الله السلامُ والرحمة والبركات، وقد ارتضاهُ السنة والشيعة، وجميعهم يرونه من خُلَّص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وارتَضَوْ خُلُقَه وهَدْيه، حين تمثَّلَ الخلقَ الإسلاميَّ النبيل في تعامله مع الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، إنْ عن قناعة ورضاً كما يقول أهل السُّنة، أو تقيةً على قول الشيعة. فعلى فَرْضِ القول بأن سيدَنا علياً رضي الله عنه صاحَبَ الصحابة وخالَطَهم تقية، وكذلك زوَّج ابنته وفلذة كبده مِن سيدنا عمرَ رضي الله عنه، وسَمَّى مِن أولاده: أبوبكر وعمر، ففعلَ كلَّ ذلك تقية كما يقولون. أليس واجبُنا جميعاَ سُنَّة وشيعة، أن نَهتدي بهديه، وأن نتمثَّلَ خُلُقَه رضي الله عنه، وعليه السلام، ونسير على سيره. الثاني: الصدق والوضوح وعدم اللجوء إلى التورية والغموض، فصاحِبُ الحق ليس عنده ما يَستحْيي مِن ذِكره، ودينُنَا والحمد لله كلُّه حقائق واضحة جليَّة، ليس فيها ما تأباه النفوس السَّوِيَّة، ولا العقول الراجحة، فما الداعي للتَّستُّر بالتورية. ذلك أن مَن كان إيمانُهُ ثمرة يقين واطمئنان، فلن يَخْشَ على دينه مِن أن يضطرب أو يهتزّ، ولن يلجأ إلى التخفِّي ولا الاستتار، بل إنه سيكون أكثرَ الناس خلطةً وانفتاحاً على الآخر، بلا حذر ولا وَجَل ولا خجل، لأنه يَحملُ مشعلَ هداية ونبراسَ هدىً، يُهديه لجميع الخلق وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، فَمِن أي شيءٍ يَتَخفَّى؟ إنني أقول هذا الكلام، وأنا أعلم أن بعض إخواننا الشيعة قد يشعرون بالضيق من إثارة موضوع التقية، غير أن المصارحة والشفافية تدعو إلى ذلك، فأحسنُ الكلام ما كان حُرَّ المعنى شفَّاف اللفظ، والعرب تقول: أخوك من عَذَلَك لا من عَذَرَك، وصديقُك من صَدَقَك لا من صدَّقك. وأجزم أن الغالبية العظمى منهم، صدورهم أرحب وقلوبهم أوسع من أن تَضيق من المصارحة من إخوانهم السنة، فطبْعُ الإنسان مُركَّب على حُبِّ الدَّلالة على الخير، وعلى البحث عن الحقيقة، ولا يُظَنُّ بالباحث عن الحقيقة ألا يَستشكِلْ، ولا أن يَضيق صدرُهُ مِن مُستشكِلْ. ولعل من المفيد التأكيد على أن تجلية موضوع التقية لا يكفي أن يكون عبر تأصيل معناها، وبيان أركانها وأقسامها، فالأبحاث في موضوع التقية كثيرة جداً، وهي مهما كانت قيِّمة، غير أنه إذا لم يَصحبها عَمَلٌ فَقَدَتْ قيمتها، فتصير كلاماً لا ثمرة له، فالثمرة المرجوَّة من تَجْلية معنى التقية حصول الثِّقة بين المتحاورين، فالواجب أن نرى ثمرتها واقعاً يعيشه عموم الناس، بحيث تطمئن نفوس العامة بعضها إلى بعض. فمِن آخر الأبحاث التي رأيتها، رسالة عنوانها: التقية في الفكر الإسلامي صادرة عن مركز الرسالة التابع للسيستاني - ولم يَذكر المركزُ اسمَ الباحث الذي كتبها - وفيها أصَّل الباحثُ معنى التقية، وأكَّد قيمتها وأهمِّيتها وعظَّم من شأنها، بل جَعَلها مذهباً للسنَّة كذلك! وليست مقولة خاصة بالشيعة، وزاد بأن عَدَّ التقية عند أهل السنة لها صُوَرٌ مختلفة، وأن بعض هذه الصور أقربُ إلى النِّفاق منه إلى التقية! ولعلَّ من طبيعة البحث العلمي أن يتحاور الباحثون حول صحة المنهج الذي سارت عليه، وحول دقَّتها العلمية في عَزْوِ الأقوال ضمن السياق أو خارجه، غير أني أرى أن نترك النقاش حول ذلك كلِّه، وأن يستقر بنا المطاف حول الثمرة المرجوَّة مِن الرسالة، وهي علاقة الشيعة بالآخرين، فنصير إلى السؤال التالي: هل ستزيدُ هذه الرسالة ثقةَ الناس بأقوال الشيعة، والاطمئنان إلى صدق حديثهم؟ أم ستُفْضِي إلى بُعد الشُّقَّة ومزيدٍ من الريبة تجاه أقوالهم وأفكارهم؟ إننا إذا اختلفنا في صحَّة كلام الباحث، فلن نختلف على أن الناسَ جميعاً، على اختلاف مذاهبهم من سنَّة وإباضية وغيرهم، تعتريهم الحيرة وتلحق بهم الريبة حول أي حديث يجري مع الشيعة، والناسُ في ذلك أقسام ثلاثة، فَمِنهم مَن يُحسن الظن ويُصدِّق، ومنهم مَن يرتاب ويتردد، فلا هو بالمصدِّق ولا المكذِّب، ومنهم مَن لن يُصدِّق ما يَسمع بل ويُكذِّبه. ولعلَّ السُّؤال الذي ينبغي لأي باحثٍ منصف أن يسأله، لماذا يختصُّ الشيعةُ دون غيرهم، بأن تكون آراؤهم الفقهية ومقولاتهم العقائدية محلاً للارتياب والشك من الآخرين؟ ولماذا لَمْ نجد أحداً يشك في صدق الكلام الذي يقوله الإباضية عن مذهبهم مثلاً، على رغم أنهم فرسان حروب، وقد جَرَتْ لهم وقائعُ كثيرة أصابهم بسببها أذىً أشدُّ مما يقول الشيعة أنه أصابهم. هذا السؤال يجب أن يُوَجَّه إلى كلا الفريقين، فيُسأل المرتاب عن سبب ارتيابه وشَكِّهِ في صِدْق الشيعة في حكايتهم لمذهبهم، ويُسأل مَحَلّ الريبة وهم الشيعةُ، عن السبب الذي جَعَلَ أقوالَهم محلَّ ريبة وشكٍ مِن الآخرين، فواجبنا أن نتَّصفَ بشجاعةٍ وصراحةٍ ليُفضي بعضُنا إلى بعضٍ بما في نفسه. أظنُّ أننا إذا عالجنا هذه المعضلة، وهي معضلة التقية، والتزمنا كذلك بأخلاق ديننا الحنيف في تَعامُلِنا مع الآخر، فَقَدْ أزلنا حاجزاً طالما كدَّر صَفو المودَّة، وحالَ دون التآلف والتلاقي للحوار العلمي المعرفي الهادف. عندها تصفو النفوس من المشوِّشات وتتهيَّأ لِسماع الرأي الآخر، ولقبول الحق، وسيتَّضح الصباح لكل ذي عينين، وقد قيل : الحق أبلج والباطل لجلج، أي أن الحق واضح وبيِّن ومضيء ومنير، فلا يلتبس على أحد، أما الباطل فمظلم وغامض ومشكل ومختلط. أما قبل معالجة هذه المعضلة، فأظن أن الكلام عن التلاقي والحوار لن يأتِ بنتيجة مُثمرة، بل قد يكون الفشلُ فيه مفضياً إلى اليأس والقنوط، وقد يَتبع اليأسَ مزيدٌ من الخلاف والنزاع. ولا علينا بعد ذلك أن نتفق أو نختلف، فيعذر كلُّ واحدٍ مِنَّا صاحبه أنَّه لم يَغشَّه، بل أَبانَ له الحق، وأورَدَهُ الماء العذب، يشربُ مما طابَ له، ولا يُفسدُ شربَ غيره قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وأظن أن أخطر مسألة يجب الخوض فيها بعد رفع حاجز التقية، مسألة عصمة الأئمة رضوان الله عليهم، فهي أمُّ المسائل، وأصل الخلاف، وما دونها فرعٌ لها. ذلك أن الأنبياءَ عليهم السلام رسلٌ مبلِّغون لرسالة ربِّهم، بأقوالهم وأفعالهم وهَدْيهم، فكانوا معصومين لتعلُّق التبليغ بهم، وهذا إجماع من السنة والشيعة. فماذا بشأن الأئمة رضوان الله عليهم الذين يَشرحون ويفسِّرون كلام الأنبياء عليهم السلام، فهل في العقل ما يَمنعُ وقوعَ الخطأ منهم؟ بل هل القول بجواز الكذب من المعصوم تقية، لا يُسقط الثِّقة بأقواله؟ ألا يتعارض اضطِرارُهُ للكذب مع وَصْفِهِ بالعصمة؟ ثم كيف تتميَّزُ لنا أقوالُ الإمام المعصوم وأفعالُه؟ وما السبيل لمعرفة ما كان منها عن إيمانٍ جازم، وما كان على سبيل التقية؟ ولهذا أمثلة كثيرة، أشهرها بيعة سيِّدنا الحسن لِسيِّدنا معاوية رضي الله عنهما، فما هو القانون الذي نَحْتَكِمُ إليه في معرفة حقيقة البيعة هل كانت تقية أم لا؟ وهل كلام المعصوم يقوله اجتهاداً أم وحياً لا دخل للرأي فيه، أي بمنزلة كلام النبي؟ وهل تَحْمِلُ العصمةُ شرائطَ النبوَّةِ فتكونُ امتداداً للنبوَّة؟ وما الفرق بين النبوة والإمامة إذا شارك الأنبياءَ غيرُهُم في الاتصال بوحي السماء؟ وهل ما نرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مُساوٍ لِمَا نَسمعه من الإمام المعصوم، إذا قلنا بأنهما معصومان، ومصدرهما واحد؟ وربَّما كان خبر المتأَخِّر كسيدنا جعفر الصادق رضوان الله عليه مُقدَّماً على السابق كجدِّه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، لِعُلُوِّ سنده، كونُ الطريق إليه أقرب. والمأمول من الإخوة الشيعة بعد بثِّ الطمأنينة في نفوس محاوريهم بشأن التقية، أن يُبيِّنوا لنا معنى العصمة، ويزيلوا الإشكالات المثارة حولها، وبعد ذلك يَحسن النقاش والحوار حول القضايا الكثيرة التي يثور منها الخلاف. وأختم معتذراً عمَّا قد يَجُرُّه صريحُ القول من جفوة ووَحْشة في النفوس، فَلْيَشفع لِيَ الأملُ في جَلْيِ صدأ الجهل بالعلم، وحَسْم مادَّة الغَيِّ بالرُّشد، ونَفْي غشِّ الصَّدر بالنُّصح. * أستاذ الفقه في جامعة الملك فيصل في الأحساء.