يفتتح الدكتور غازي القصيبي كتابه"براعم"صادر عن دار القمرين بمقدمة على شيء من الحذر مفادها: ان قصائد هذا الديوان كتبها بين السادسة عشرة والتاسعة عشرة، ولسبب ما لم يضمنهاً أيا من مجموعاته الشعرية السابقة. واحتوى سواد الديوان الأعظم على قصائد عاطفية شخصية تليق بالمرحلة العمرية والأدبية التي كتبها فيها الشاعر. وهي مرحلة الرومانسية العربية، التي تخللت ما بين مرحلتي مدرسة الإحياء والحداثة الشعرية، التي بدأت تنتشر في مجال النص الشعري العربي آنذاك، ومما يشير إلى ذلك أن الشاعر يشير في حاشية قصيدته المعنونة ب"علامَ رجعت"بأنه ذكر أنها أول قصيدة من شعر التفعيلة في منطقة الخليج. فيدل ذلك على أن سائر الديوان سيكون من ديباجة ما قبل تلك المرحلة، أي ما قبل مرحلة التفعيلة، وهي المرحلة الرومانسية التي شوهدت في بدايات شعر السياب ونازك الملائكة، وسيطرت على شخصيات شعراء كانوا مشاهير آنذاك في العالم العربي كأبي القاسم الشابي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وعبدالرحمن شكري وغيرهم. ومن هنا فإن القصيدة المرسلة ذات المقاطع المتنوعة الموحدة البحر والمتعددة القوافي، هي التي من شأنها أن تظهر في شعر الفتى الشاب غازي آنذاك حاضرة ومتأثرة، متغلباً على معظمها الجانب الشخصي والهم الوجودي الذاتي للشاعر، إذ يكتب القصائد في الحبيبة المنشودة، أو رداً على رسالة الأمّ، أو إخوانية مع زميل دراسة، أو تغنياً مع المقاومة الجزائرية التي تئن في الجوار، أو حلماً بالوحدة العربية الناصرية التي ضجت في أرجاء الوطن العربي كله، ولم يكن بدعاً أن تجتذب في أتونها قلب الشاعر الشاب. وكما كان كثيرون من العرب في فترة الحلم العربي الناصري، كانت مصر بالنسبة للشاعر الشاب السعودي، القادم من الجزيرة النامية التي لما تطلع عليها مشارق الحضارة المدنيّة، حلماً بطوليّاً يتغنى به منتشياً بعلا الإباء، وأحلام البطولة، والانتصار الدمويّ المتوج بلحن الرصاص، فيقول في قصيدة"مهد الإباء":"يا بورسعيد أفي الوجود مدينة/ صمدت صمودك والحِمام مخيّم؟.. انى التفتّ كتائب فكتائبٌ/ هي درع مصر إن رمتها الأسهم". ثم يخاطب مصر:"لم أنس يومك والرصاص مزمجر/ ومدافع مسعورة تتكلم. والشرق خلفك واقف متحفز/ وقلوبه أبداً عليك تحوّم". إنها صفحة من الصبا، أهداها إلينا الشاعر القصيبي، لنقرأ من خلالها النمط الخطابي الشعري، الذي كان مسيطراً في تلك الفترة، ولنقرأ من خلالها هموم وأوهام وعواطف وعواصف شباب الإنسان العربي الذي عانق حلم الوحدة والتحرير الغنائي، وإن لوهلة قصيرة من الزمن، ومع ذلك فهذه الفترة المليئة بالسذاجة البريئة لا تخلو من توجس الرومانسية العربية المعروفة. بل إنها تتلمس الغد بيد حذرة تخشى أن تمتد إليها منه مناجل الحصاد، في قصيدة"رمضان"، وهي إحدى أقوى قصائد تلك الفترة التي تشي ببداية تأثره بالحداثة الشعرية الطارئة على البناء الشعري للقصيدة العربية. كما يمكن اعتبارها إرهاصاً منبئاً بالتطور الفني والبنائي الذي سيطرأ مستقبلاً على قصيدة القصيبي:"أنا ما زلت الطفل الحالم/ ما زلت وحيداً فوق السطح/ كم أتمنى لو ألقيت برأسي في أحضان الصمت/ وطوتني أجنحة الذكرى لأعود صغيراً لم أبرح عامي السادس/ يا رباه/ أيحن فتى لزمان المهد/ ما أصنع إن مرت أعوام/ إن أوغل ركب العمر وأوغل يا رباه.../ الساعة تعلن نصف الليل/ وأنا ساهر/ وأمامي كومة أوراق، ودخان يعبق في الأفق/ والقلم المضنى في كفي/ ينساب على صمت الأوراق/ تمتد سطور وسطور/ وأذوب في ما أكتب قلبي/ وأحاول أن أصنع شيئاً، لكن الألفاظ أمامي جثث سوداء".