ها قد عدنا الى ملف الفتيات الهاربات، وقد أحسنت صحيفة"المدينة"في ملحقها الأسبوعي الرسالة حين أقبلت على فتح الملف المسكوت عنه هروب الفتيات في إحصائية أخيرة تدعو الى وضع خطط منهجية مدروسة لمعرفة الأسباب، أيا كانت، ومن ثم ردعها وصدها قبل استفحالها، لما لهذه البلاد من خصوصية لضمها لأطهر بقعتين اختصها الله بالوحي، فالإحصائية تقول إن هناك 850 فتاة هربن في العام الماضي، وفي إحصائية أخرى لوزارة الخارجية، بلغ عدد الهاربات عام 1426ه" 1334 فتاة"، في ما أكدت دراسة أخرى أن هناك"3 آلاف"حالة هروب في مكة ومثلها في الرياض، غير الحالات التي لم تسجل بسبب طبيعة المجتمع. كنت وعدت في مقالين سابقين، بخصوص هذا الموضوع، أن أختمه بقصة واقعية لفتاة استطاعت أن تصمد في وجه الأحداث والظروف الأسرية والزوجية، بقرار صارم قاطع"لن أهرب الى الهاوية"، فهيا بنا نقرأ بتمعن قصة صمودها كانت فتاة صغيرة لم تبلغ ال17 من عمرها عاشت ظروفاً أسرية قاسية من أم متسلطة جبارة، وأب ضعيف الشخصية، وأخوة كثر بلغ عددهم ال"15"ما بين أخ وأخت، وحين طرق بابها طارق الزواج قبلت بلا تردد، وكذلك أسرتها لأنها كانت تطمح إلى أن تؤسس أسرة مغايرة لأسرتها تعوض فيها ما خسرته من حنان وعطف واهتمام، ويا لها من صدمة، فما تأملت فيه ظهر عكسه، عبر زوج جبار وسليط اللسان لا تراه فائقاً إلا قليلاً لإدمانه على المسكر ولكم حاول معها لإخضاعها لمزاجه وجعلها أداة طيعة، لكن الفتاة أبت وصمدت، حتى أنه كان يجبرها على حمل مسكراته في حقيبتها الخاصة عند السفر، ثم خرجت من تلك المأساة بطفل بريء كل ذنبه أباه لتحمل اسم مطلقة في عمر ال"19"سنة، وغادرت الى أهلها، ويا ليتها لم تعد، فقد لاقت من الهوان الكثير، باعتبار أنها مطلقة، والمطلقة عند معظم الأسر عار يجب وأده أو نفيه، فمعايرتها أنها مطلقة لازمتها طوال إقامتها عند أهلها في غرفة مستقلة في الطابق العلوي منبوذة مكروهة، وحتى الطعام بالكاد تحصل عليه، لم تسلم من أخوانها الذكور ولا الإناث، ولما ضاقت بها الحياة في غرفة المطلقة تلك. كانت تخرج ظهراً الى ما بعد العشاء، هرباً مما هي فيه من ضنك، ولكن أتدرون أين تذهب؟ إنها تهرب بهمومها الى بيت الله حيث الحرم النبوي، لا تعود إلا بعد أن غسلت همومها وحافظت على شرفها وعرضها، على رغم الظروف المحفزة للهروب الى حيث تشاء، لكنها أبت أن تهرب الى الهاوية بكل ما تحمله من كلمة هاوية، ربما لا تعود منها إلا الى السجن أو المقبرة كقتيلة، قتلها عشاقها بعدما اكتشفوا حملها، أو أم لطفل لقيط ذنبه أم هاربة الى حيث الهاوية، والكارثة أنها حين تعود لبيتها لا يسأل عنها أحد أين كانت؟! لماذا تأخرت؟! لأنهم ببساطة يريدونها أن تعود لزوجها وإن كان سكيراً. ومرت الأيام تلو الأيام وطرق الباب رجل آخر ذا نسب وحسب ومنصب، ففرحت واستبشرت وقالت: ها قد جاء الفرج وتزوجته وأنجبت منه خمسة أطفال كل واحد منهم أجمل من الآخر، وهذه المرة الأمر مختلف، فالزوج المحترم تركها في شهورها الأخيرة لطفلها الخامس وذهب بلا عودة مع زوجة أخرى استطاعت أن تسكره بلا مسكر، وتسحبه من بيته وأولاده، ولا أدري أهذه ضريبة الزوجة الثانية أم ضريبة ضعف الرجال أمام الزوجات الجدد؟ أم للسحر المنتشر؟ عموماً ظلت صامدة تصارع قلة المال، وحرمان الزوج وهو موجود لا يفصله عنها سوى سقف البيت السفلي، وتعاني آلام المخاض والولادة من دون وجوده، مع قلة المورد المالي لها ولأطفالها، ما اضطرها لبيع أثاث البيت لإرضاع الطفل وتهدئة أفواه الصغار، الى أن تم الطلاق في المحكمة بعد معاناة خرجت منها مطلقة تابعة لإحدى الجمعيات الخيرية بلا نفقة من زوجها إلا بعد معاناة مد وجزر في المحاكم الشرعية، ومع ذلك قاومت وصمدت في وجه الهروب الى المجهول، والهروب الى أسوأ مما هي فيه، وهي تردد لا للهروب، لا للهروب، لا للهروب. [email protected]