ثلاثة وجوه مختلفة الملامح تطالعنا كل يوم، تمثل أهم وأغلى ما في حياتنا، إنهم الشباب من الجنسين، فهم ثلاث فئات لكل منها ظروفها وخصائصها وإمكاناتها وأزماتها، تربت على التراخي في النظام الذاتي، ولم تتعلم ما معنى الجهد، ولم تتكون لديها هوية نجاح ومستقبل، لأنها تعيش من خلال الترف، إذ تأخذ كل شيء ولا تعطي أي شيء! وهناك وجه آخر محظي يمثل فئة النخبة من جيل الشباب الذين أحيطوا برعاية أسرية عالية، وحسن توجيه وإعداد للمستقبل، ولهذا فهي الفئة الأكثر تكيفاً في الدراسة، إذ تحظى بأفضل فرص التحصيل والتربية، فتستطيع بناء"هوية النجاح"ويكون مفهومها إيجابياً عن الذات والعالم، ولذلك فهي مميزة في قدرتها وفرصها على بناء مكانة اجتماعية مهنية رائعة. أما الوجه الثالث الذي يبرز أمامنا دائماً فهو ذلك الوجه"القلق"الذي يمثل الشريحة الأكبر من الشباب الطامح إلى الارتقاء الاجتماعي والحياتي، فهم يتوسلون الدراسة بهدف التفوق فيها لبناء حياة مهنية وأسرية كريمة، ولتحقيق نقلة نوعية في وضعهم الاجتماعي والاقتصادي المتواضع في الأصل... فيكافحون من أجل بناء"هوية نجاح ومستقبل"، وينجح قلة منهم في تحقيق الاختراقات المأمولة والوصول إلى وضع مهني اجتماعي معقول. أما الغالبية فإن الفرص أمامهم تزداد انحساراً، خصوصاً عندما يبدأ شبح"البطالة"والتأخر عن سوق العمل في السيطرة على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، فيتسلل إلى نفوسهم الإحباط والمعاناة من حياة الأمل، وذلك بسبب تواضع نوعية التعليم الذي يتوافر لهم منذ البداية وتدني مستواه، مما لا يؤهلهم أصلاً للمنافسة في سوق العمل ومتطلباته المتزايدة والمتسارعة في مجال الاقتدار المعرفي والمهني، إضافة إلى التعليم الجامعي الذي يراكم معلومات ولا يبني معرفة علمية قابلة لأن تتحول إلى مهارة مهنية منتحية. وهذه الشريحة لها وجه آخر مخفي يمثل فئة الشباب الذين يطلق عليهم علماء النفس"شباب الظل"، وهم فئة مهمشة يتكون قدرها منذ الطفولة عندما تُحرم حقها في الرعاية الأسرية والعاطفية ثم الاجتماعية والتحصيلية، كما تُحرم من الإشباع الملائم لحاجاتها الأساسية، وغالباً ما تتفشى فيها الأمية التي تؤثر على تدني نوعية الحياة التي تحياها، فتكون النتيجة حرمانها من بناء"هوية نجاح في الحياة أو المهنة"، فيتزايد الاحتقان النفسي داخلها فتكون ردود أفعال عنيفة ومدمرة، خصوصاً عندما تتاح أمامها ظروف الانفجار في المجتمع بشكل يفاجئ الرأي العام الذي كان غافلاً عنها ومتناسياً لها. ويشكل حرمان معظم شبابنا من المشاركة في صناعة المصير، وحقوقه في الاعتزاز بكرامة الانتماء وفخر صناعة الكيان الوطني، إلى وضعهم في دائرة التعرض لخطر انفجارات العنف العشوائي، أو الوقوع في إغراءات الحركات الأصولية التي تزين لهم امتلاء الوجود الذاتي بقضايا تسبغ عليهم طابعاً متسامياًً. وهذا الأمر يتطلب معالجة أسباب خطر"التهميش الاجتماعي لمثل هذه الفئة من الشباب، وهدر الوعي والطاقات لديهم"، كما يتطلب الأمر أن ندرك أن اكتمال تحقيق الانتماء للوطن يكون من خلال إفساح المجال أمام الأجيال الصاعدة لتحتل المكانة وتلعب الدور الحيوي وتسهم في بناء وطنها، ولا يمكن التساهل في ذلك حتى لا تصبح مثل هذه المجتمعات من فئة المستغنى عنها، خصوصاً حينما لا يتوافر لها مجتمع يمكن أن يشكل نخبة منتجة. وإذا كان حلم كل خلية هو في أن تصبح خليتين، كما يقول الفيلسوف وعالم البيولوجيا"جاك مونو"، فإن حلم الحياة ذاتها أن تتجدد وتتمدد وترتقي، ومن يحاول أن يمنع دورات الحياة من التجدد فإن هذا ما يؤسس للإحساس"بالغربة في الوطن"، لأن الحياة كأمواج البحر التي تكبر وتتعاظم وصولاً إلى ضرب الشاطئ بعنفوانها ومن ثم تتلاشى لتعقبها أخرى، فالحياة تولد أجيالاً جديدة ومتتالية ولا تنتهي عند دورة حيوية معينة، وكل جيل منها ينصحه العالم التربوي"باولو فريري"بضرورة بناء اقتداره ليتمكن من الوصول إلى الوعي المطلوب في التعامل مع عالم القوة الراهن والمستقبلي، وأن يصنع طريقة من خلال سيره إلى الإمام، وفي جميع الاتجاهات حتى يتمكن من إدراك اتجاهه الصحيح. وبناء الإنسان يعني ألا نكتفي بمحاولة فهمه من الداخل فقط أو من الخارج فحسب، بل لا بد من فهمه من الداخل ومن الخارج في الوقت نفسه لكي يتحقق فهمنا للإنسان المنعزل والمستقل داخلياً، والإنسان الاجتماعي الذي لا يعرف ولا يفهم إلا وسط جماعة ومن خلالها. أكاديمية متخصص في التاريخ المعاصر