هل عاد الأدب مرة أخرى ليكون فن النخبة؟ أخشى أن تكون الإجابة أن الأدب لم يكن في معظم أوقاته إلا فناً للنخبة، لم تفلت إلا فترات قليلة، استطاع الأدب فيها أن يكون شعبياً بمعنى أنه تجاوز النخبة المثقفة في مجتمع ليمتع ويؤثر في الناس كافة، لعل حقبة الجاهليين أكثر الحقب دلالة على اتساع نطاق استهلاك الأدب، فيها كان الشعر لسان حال القبيلة، والشاعر هو المعبر عن أحلامها وآمالها وآلامها، وفيها كان التعلق بالشعر لا يميز بين شخص وآخر، ربما كانت الفترة التي قيلت فيها النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل فترة بدا فيها الشعر كذلك ذا انتشار واسع بين فئات الناس، وحين تم عزل الشعر في بلاط الخلفاء والأمراء كف عن أن يكون فناً شعبياً، وبدأ الناس يبحثون لأنفسهم عن فن يرضي حاجتهم. هل قدر الأدب إذاً أن يكون فناً للنخبة؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بعد تأمل حالة انتشار الأدب أو انحساره في الحضارة الإسلامية وربما في الحضارات الأخرى، في حالتنا وربما في حالة غيرنا، فإن انتشار الأدب ارتبط بقدرته على التماهي مع المجتمع على نطاق واسع، بحيث قرأه الناس أو أنشدوه - في حالة الشعر - بحثاً عن شكل من أشكال المعرفة التي ترضيهم، لم تكن المتعة المجلوبة من الأدب معزولة عن الفائدة التي يمكن أن يتحصلوها منه، وحين قال هيجل في إحدى محاضراته إن الفن بالنسبة الينا أصبح شيئاً من الماضي، فإنه كان يقصد هذا الجانب من الأدب، جانب المعرفة التي يمكن أن نحصلها منه، على اعتبار أن الفلسفة في المقام الأول عنده وربما الدين يقدمان هذه المعرفة ويرضيان حاجة الناس، على رغم أن الحركة الرومانسية - وهيجل أحد المؤثرين الكبار فيها - ترى أن الشعر هو الذي يقدم المعرفة وليس الدين، وأن الشاعر من وجهة نظر الرومانسيين يحل محل النبي، بعض النقاد يرى أن الأدب حتى في أكثر أشكاله غموضاً وعزلة يقدم شكلاً من أشكال المعرفة ويتماهى مع البشر من حيث هم بشر، لكن هذا الرأي لا يجيب على السؤال حول السبب في نخبوية الأدب، أو أنه يلقي بالمسؤولية على الناس. ماذا حدث إذاً للأدب؟ بعض الباحثين يرى الأمر من زاوية أخرى، روجر فاولر مثلاً في كتابه المميز Linguistics and the Novel يرى أن هناك صعوداً للأشكال السردية في الأدب في مقابل الشعر، وأن لذلك أسباباً خاصة بالرواية من حيث قدرتها على التعبير عن حاجات المجتمع ومشكلاته بصورة لا يستطيعها الشعر، وقد تلقف بعض النقاد العرب مثل جابر عصفور هذه الفكرة، فقال بزمن الرواية في مقابل زمن الشعر الذي كان، لكن هل يعني ذلك أن الأدب عاد مرة أخرى ليكون فناً شعبياً؟ هم يدللون على ذلك بأن مبيعات الرواية تحقق معدلات أعلى بكثير من مبيعات الشعر الذي لا تكاد دواوينه تبيع شيئاً يذكر الآن، وهو أمر في حاجة إلى تمحيص، فالروايات التي تباع في الغرب بالملايين هي روايات مثل شفرة دافنشي وهاري بوتر، وهي مسار في التأليف السردي لا يشبه السرديات الكلاسيكية الا قليلاً، انها تعتمد أساساً على التشويق كما في حالة شفرة دافنشي أو العجائبي كما في حالة هاري بوتر، ومن ثم فلا يمكن عدها مقياساً على انتشار الأدب الآن، وهو الأمر نفسه في بيئتنا العربية، فأكثر الروايات انتشاراً الآن هي روايتا علاء الأسواني"عمارة يعقوبيان"وپ"شيكاغو"، ومع تقديري الشديد لمقالات الأسواني السياسية، فإن ما جعل روايتيه تنتشران هذا الانتشار الكبير هو توليفة الجنس والسياسة فيهما، والاشارات إلى بعض الشخصيات السياسية التي تثير لا شك فضول الناس، وأما حظ الفن السردي فيهما فقليل، والأمر نفسه ينطبق على رواية رجاء الصانع"بنات الرياض"، التي انتشرت بسبب جرأتها في الكتابة عن مجتمع محافظ مثل المجتمع السعودي، لم أستطع ولم يستطع كثير ممن حولي أن يكملوا قراءة هذه الرواية حتى نهايتها. ما سبب الأزمة إذاً؟ في تقديري ان هناك عوامل متشابكة أدخلت الأدب في هذه الأزمة التي لا يبدو ان خروجه منها ميسور، لعل أكثرها وروداً على الخاطر هو دور الوسائط الحديثة في جلب اشكال من المتعة لا يستطيع الأدب أن يحققها، أعني هنا السينما والتلفزيون والانترنت، لكن هناك عاملاً آخر كان تأثيره هائلاً في احداث الأزمة، عامل النقد الأدبي، نعم النقد الأدبي خصوصاً نظريات الأدب التي شهدت انفجاراً كبيراً في القرن العشرين، هذا دور لا أتصور أنه كان حاضراً في ذهن كثيرين ممن تصدوا للتنظير للأدب، فحين يتساءل واحد من أهم منظري الهرومنيوطيقا وهو جادامر في كتابه"تجلي الجميل"عن حاجة ظاهرة الفن إلى تفسير لأن فهم ماهية الفن ودوره في حياتنا أو عالمنا الانساني أصبح مفتقداً، يشهد بذلك الاغتراب الذي نستشعره ازاء الفن المعاصر وفن الماضي على السواء، فنحن لم نعد نفهم الدور التاريخي الذي كان يلعبه الفن في الماضي، ولم يعد فننا المعاصر يلعب دوراً تاريخياً في عالمنا أو لم نعد نفهم له دوراً تاريخياً، حين يقول ذلك فإنه يضع الأزمة في بؤرتها الحقيقية. وهو يطرح ما يسميه الاغتراب الجمالي إزاء الأعمال الفنية، فنحن لا نقرأ الأدب من أجل المتعة فقط كما تدعي بعض نظريات الأدب، لأننا نتناسى كما يقول جادامر أن كل ابداع فني في أي عصر انما أبدع ليقول شيئاً ما لأناس يحيون في عالم مشترك، ولم يبدع لأجل القبول أو الرفض الجمالي، لأنه لم يبدع لأجل الوعي الجمالي، وهذا يعني أن الوعي بالفن من حيث هو وعي جمالي يكون دائماً ثانوياً بالنسبة لدعوى الحقيقة التي تنبثق من العمل الفني ذاته، ومن ثم فإننا عندما نحكم على العمل الفني بناء على خاصيته الجمالية فإن شيئاً كان مألوفاً بالنسبة لنا ألفة حميمية يصبح مغترباً، وهذا الاغتراب إذاً يحدث عادة عندما ننسحب ولا ننفتح على الحقيقة التي يقولها العمل الفني، ونحاول بدلاً من ذلك فهم العمل من خلال خاصيته الجمالية فقط، أي من خلال الصورة أو الشكل الجمالي. وهو ما حاوله النقد الأدبي حين ركز كثيراً من أطروحاته على البحث عن الأسباب التي تجعل العمل الأدبي جميلاً، ووصل في هذا الأمر إلى اللغة التي عدها بؤرة اهتمام العمل النقدي بتأثير كتابات دي سوسير، فظهرت الأسلوبية ثم الشكلانية والبنيوية والتفكيكية، وكلها نظريات نقدية تهتم أول ما تهتم بلغة العمل الأدبي على اختلاف زاوية الرؤية لهذه اللغة بين نظرية واخرى، وكلها كذلك أحدثت ما يسميه جادامر الاغتراب الجمالي إزاء الأعمال الفنية، وكانت التفكيكية من بين هذه النظريات أكثرها تأثيراً في إبعاد الأدب ليكون فن النخبة، حين قالت بفكرة انزلاق المعنى في الأدب، أو أنه مُلِئ بمعان لا نهاية لها ولا يمكن حصرها، وأن لغته لغة غير محددة بل متناقضة ولا أساس لها، وأما تنظيم بنياته ونحوه ومنطقه وبلاغته فكلها مجرد حيل وبراعة في الخداع، وإذا كان له معنى فإنما هو معنى موقت يضيفه القارئ من عنده من دون أن يكون هذا المعنى مفترضاً متضمناً في النص نفسه، كما يقول الفين كرنان في كتابه"موت الأدب"، من أجل هذا ولأسباب أخرى كثيرة ابتعد الأدب في ركن قصي يواجه قدره في أن يكون في معظم الأوقات فناً للنخبة. * ناقد واستاذ جامعي