وصلت ألمانيا في بداية القرن التاسع عشر الى قمة ازدهارها في الفلسفة والأدب والفن إذ شهدت ظهور هيغل وغوته وبتهوفن الذين مثلوا عصر ألمانيا الذهبي. وكان جورج وليم فريدرش هيغل 1770 - 1831 أول هؤلاء العظام، الذي مثل في فلسفته قمة الفكر والفلسفة المثالية في ألمانيا.وكان اندلاع الثورة الفرنسية حدثاً أدى الى تغيير وجه أوروبا والعالم وليس وجه فرنسا فقط. وكان لها تأثير كبير في حياة هيغل الشاب وأفكاره وأخذ قلبه ينبض مع أحداث الثورة إذ أخذت رياح الحرية تهب على أوروبا وتغير مجرى التاريخ، وكان يتطلع الى ان تنعكس أفكارها التحررية التي رفعتها الثورة من أجل الحرية والإخاء والمساواة على ألمانيا. وشارك مع غيره في ربيع 1791 بغرس أول شجرة للحرية في ساحة مدينة ينا احتفالاً بهذه الثورة. وقد صرح هيغل بأن مبادئ الثورة الفرنسية التي دعت الى حقوق الإنسان تتفق ونظامه الفلسفي، لأنها مبادئ انطلقت من الفكر وإن هدف هذا الفكر الحر هو تخليص الإنسانية من الخطيئة الأساسية وهي خضوع الفكر للقوى اللا شعورية العمياء. ان انبهار هيغل بمبادئ الثورة الفرنسية كان إحدى نتائج التناقض بين الحق والحرية الذي قدح فكره. فالحرية عنده هي الهدف الأخير لتاريخ العالم ولا يمكن ان تتحقق إلا بواسطة المعرفة وبأقصى درجات الحرية وبالمقدار اللازم من الالتزام. فالحرية عند هيغل ليست نشوة مخدرة، بل فعل أخلاقي، وعلى الإنسان المعاصر ان يقيم مجتمعاً تكون فيه حرية الفرد شرطاً ملازماً لحرية تطور الجماعة. غير أن هيغل ارتد عن الثورة الفرنسية حين انتصر نابليون على الجيش البروسي عام 1806 ودخلت الجيوش الفرنسية مدينة ينا في جو من الرعب والعنف والفوضى التي ارتكبها الثوار. ومذاك حدثت في حياة هيغل العلمية نقلة نوعية دفعته الى الاستقرار فارتفعت قدرته على الإنتاج والإبداع فأنجز كتابه"فينومينولوجيا الروح"ثم كتاب"المنطق"، الذي أثار بسبب غموضه جدلاً فلسفياً حاداً في أروقة الجامعات الألمانية، وهو ما رشحه للفوز بكرسي الأستاذية في الفلسفة في جامعة هايدلبرغ. وفي تلك الفترة أصدر موسوعته في العلوم الفلسفية. وكانت محاضراته في فلسفة الحق وعلم الجمال قد رفعت من شأنه وسمعته العلمية ورشحته للحصول على كرسي الأستاذية في الفلسفة في جامعة برلين التي كانت حينذاك منبراً للفكر الألماني المثالي. ومذاك دخل هيغل عالم الفلسفة الذي لم ينازعه فيه منازع، مثلما دخل غوته عالم الأدب وبتهوفن عالم الموسيقى. كانت محاضراته في علم الجمال قد فتحت آفاقاً عديدة للفن، فهو يتكلم بإسهاب عن فلسفة الفن وجمالياته، التي تتعدى جمال الطبيعة وما تزخر به من بدائع في الوجود، الى ما يقوم به الإنسان من روائع وإبداعات في نقل الجمال ومجاوزة محاكاته الى الإبداع والابتكار. فهو ينفي قول ان الجمال الطبيعي أفضل من الجمال الفني. ففي مدخل كتابه الى علم الجمال يقول"ان الجمال الفني، بخلاف ما تزعمه النظرة الدارجة، أسمى من الجمال الطبيعي انه نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإن سموه ينتقل بالضرورة الى نتاجاته، وبالتالي الى الفن". والفن عند هيغل أعلى أشكال الجمال، وجمال الفن عنده هو تآلف الروح، وهو اكثر إشراقاً من جمال الطبيعة. وبحسب هيغل فقد مر الفن بمراحل ثلاث هي المرحلة الرمزية التي تتمثل في العمارة والمرحلة الكلاسيكية والتي تتمثل في النحت والمرحلة الرومانسية والتي تتمثل في فنون الرسم والموسيقى والشعر. عرف هيغل علم الجمال بصفته النظرية الفلسفية للجميل وللفن منبهاً الى انه لا يتوخى تحديد مفاهيم وقواعد فنية، بل يريد التقاط اللحظات الأساسية التي كونت الجميل والفني على مدى التاريخ. ان علم الجمال عند هيغل هو القادر، اكثر من أي أعمال أخرى، على تعريفنا على الكيفية التي تمتزج بها الأفكار عند هذا الفيلسوف الاستثنائي. ومن مفاهيم علم الجمال عند هيغل هو"حالة العالم"التي يقصد بها"أسلوب الوجود الروحي"في علاقته بالمثل الأعلى الجمالي. وبمعنى آخر، فإن هذا الموضوع هو ذو طابع ذاتي - موضوعي في وضعية الإنسان في نظام العلاقات الاجتماعية ونظرته الى العالم، وباختصار حول خصائص الواقع الروحي الذي تولدت في جوه الأعمال الفنية. وقد اعتبر هيغل أن"الوضع البطولي"هو الأكثر ملائمة للإبداع الفني، بمعنى"المثال الحقيقي"الذي يجب أن يكون نوذجاً لأحكامنا عن طبيعة الإبداع الفني، منطلقاً من ان السمة الأساسية للعصر البطولي هي الوحدة العميقة بين الإنسان والعالم، حيث يظهر الفرح في كل مكان، في الاكتشافات الجديدة والطرافة والمتعة والقرب من الإنسان. والأمر الجوهري في ذلك هو استقلالية الفرد الذي في ظله تتحدد الشخصية البطولية المستقلة، القوية والمتكاملة، التي تتحمل المسؤولية كاملة عن آثار تصرفاتها. وتظهر الجانب الذاتي أي التكامل الداخلي للشخصية، والجانب الموضوعي للوجود الخارجي. على ان لا يفترق الجانبان في الوجود وان يكونا اتفاقاً وارتباطاً متبادلين. ومع ان هيغل أعطى تعاطفه مع الفن الكلاسيكي الذي نشأ على أساس الحالة البطولية للعالم، غير انه اعتبره مرحلة مرت ولن تعود، وان القرن التاسع عشر حل محل العصر البطولي الى غير رجعة، وجاء عصر جديد هو عصر الحالة الاعتيادية للعالم، الذي يتميز بعلاقات اجتماعية وأخلاقية منظمة ومثبتة في قانون الدولة وتقسيم العمل الاجتماعي. ان هذا التنظيم الجديد للحياة هو طبيعي ومفيد في كثير من النواحي، ولكن ليس من أجل الفن الذي يدخل في تناقض، بل هو غير قابل للتوفيق مع الواقع الحقيقي. فالفن الحديث وصل الى مأزق لأنه صار أسير تناقضات لا يمكن حلها، ولا مفر له إلا في تأكيد المثل الأعلى الجمالي والحرية التي يعتمد عليها في مفهوم الجمال.