كثيراً ما يمتلك الإنسان رؤية معتمة أحياناً، بفعل العاطفة حول الناس الذين يحبهم، ويألفهم، ويشعر بأهميتهم في حياته التي لا يستطيع أن يعيشها ويستمتع بها إلا بقربهم، بل ويمتد به الشعور إلى أن يدخلهم في صميم حياته بشكل أو بآخر، ولكن فجأة وعلى حين لحظة صادمة يشعر بالغربة في ذلك المحيط الأثير مع الذين أهدر أيامه، وأرهق عقله بالتفكير، في همومهم ومتاعبهم، الأمر الذي قد يجنح به إلى كآبة الصدمة، التي تضطره إلى فتح أوراقه وإعادة ترتيبها من جديد، نتيجة لمواقف لمسها، واكتشفها، من خلال سلبيتهم في خضم الأوقات الحرجة، التي يحتاجهم فيها، ولكنه يفتش عنهم فلا يجدهم، وترتطم الحقائق بوجهه مقهقهة، تكسر بسخريتها جدران الأروقة الوهمية، التي حجبت عن جزيئات قلبه النابضة بالألق، مواطن الخبث والاستغلال والجحود البشري، ليكون هذا الاكتشاف واحداً من مرايا كثيرة، لكنها هنا منكسرة تخربش المشاعر بشظاياها الدامية عندما يرى الإنسان الحقيقة التي غابت عنه كثيراً، تحت دورة الأيام المليئة بالمتناقضات، والمختبئة تحت طاقية الضياع والذهول. ولكن هنالك مرايا جميلة يراها الإنسان ويطيل النظر إلى نفسه من خلالها دون أن يمتلك رؤية ثابتة لاكتشافها أو الدخول إلى عالمها، فأنت ترى وجوهاً ترتاح لرؤيتها، وتحس بقربك منها، دون أن تعرفها، لكنك تألفها من ابتسامتها، من تبسطها، من تدفق المشاعر المضيئة، التي لا تستطيع أن تفسر سبب انجذابك لها، ولا تملك إلا أن تحب هؤلاء البشر الذين لا تعرفهم، ولكنك تحبهم لمجرد مشاهدتهم، وتألفهم من ملامحهم وجمال نفوسهم. وعلى العكس من ذلك حين ترى وجوهاً لا تعرفها ولا تنتمي لها بصلة أو بأخرى، إلا أنك تشعر بالنفور والانقباض منها لمجرد رؤيتها، لتكون هذه إحدى المرايا الجاذبة، النابضة بالتساؤل، عن مدى أبجدية المشاعر الغريبة التي لا تستطيع أن تنفذ من خلالها إلى معالم قلبك المضيء، المنطفئ، العالق في دوافع الغربة والألفة، في عالم مليء بالانبهار، والركض، والانكسار، والعزلة أحياناً. هكذا نرى في محيط الحب والعشق، مرايا معتمة، تسوق الإنسان إلى درب محبوبه، مأخوذاً به وإن كان قبيحاً، راضياً بقربه ولو كان جحيماً، واثقاً به ولو كان غادراً، والعتمة مصدرها القلب، الذي يلغي العقل تماماً، ليسير خلف مرايا شفيفة باللحظات، فالقلب مأسور في زوايا العاطفة الواقعة تحت تأثير الظنون المتخوفة، من فراق المحبوب، فترى بعين تختلف عن أعين الآخرين الخارجين عن مغناطيسية الجذب، ويتحكم فيها العقل، ومن هنا جاء القول بأن"الحب أعمى"، وحين يفيق الإنسان من سكرة الحب، وتنكسر المرايا المرسومة بألوان الشعور، وينبثق العقل فقد يكتشف الإنسان متأخراً أنه ركض خلف الوهم، في وجه لا وجه له، وبعثر مشاعره في روح لا تنبض بضوء مراياه الساطعة من زخم آماله المرجوة من صور المرايا النابضة بمثالية القيم والمبادئ التي كانت رحيقاً للغرام بها، وإذا ما أضيف إلى ذلك مكامن الجبن والبشاعة القابعة في داخل الطرف المحبوب، وتتداعى المرايا وتتهالك الصور الرديئة من صمت الضمير، وكذب الحديث، ونسف الوعود، وقذارة السلوك، عندها تسطع مرايا اللوم، كأنها تمسح المرايا القديمة في ثورة الانتقام، أو المناعة من التجربة بالكره المفرط، أو الانعزال المحبط، أو مسح المرايا بوجوه جديدة، ولكن على حذر مرعب، مما يترجم السلوك بالعبث بالمثل، أو التسلح بالماضي، فينتج الظلم لوجوه بريئة ومشاعر صادقة، من آخرين، لم تستشف مراياهم صور الخرابيش المثقوبة بعين الفعل الجديد المنطفئ بخلفية الأيام المتردية، وبالتالي فأنت في محيط عملك أيضاً عرضة لمرايا شفيفة، وأخرى محدبة، أو مقعرة، بين شدّ وجذب لا منتهٍ، فقد تصادف أناساً لا تروقهم، ولا يميلون إليك، كطرف أول، بينما تنجذب لآخرين متعاوناً، ومخلصاً، ومتفانياً في مساندتهم، ثم تكتشف مكائدهم، وزيفهم، وخداعهم، بينما الطرف الأول هو الذي ظل يضمر لك الخير، لكنك لم تره إلا أخيراً، وهكذا تختلف النفوس بين تنافر وتجاذب، مراياها كثيرة ساطعة حول أشخاصها أحياناً، وأخرى خادعة بدوافعها، وبعضها ملونة بمصالحها، ونحن نمسح، ونمحو بمناديلنا خلايا حواسنا المكتظة، لنطمئن في السير خلف ما نقرأه داخلياً، من احتمالات الصدق أو الكذب، نجهل أسرار الوجوه والنفوس، ونحصد ثمار سيرنا، خلف مسارح ارتياحنا، أو نفورنا، فإما الأمل الجميل، وإما الانكسار المخيف، وتبقى الأرواح كما قال الرسول"صلى الله عليه وسلم": جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف. [email protected]