في ديوان الشاعر الاماراتي أحمد راشد ثاني"يأتي الليل ويأخذني"دار النهضة العربية، 2007 لا نقرأ على الغلاف ما يشير إلى الشعر، أي أن الشاعر يترك الغلاف وما يليه بريئاً من أي صفة أو تحديد. ومع ذلك فهو يفتتح الكتاب بنص للشاعر الفرنسي إيف بونفوا يحيلنا إلى عالمه هو، الذي اختبرناه في نصوصه الشعرية خصوصاً، والباحثة في التراث الإماراتي عموماً. أما نص بونفوا فهو ينطلق من الصحراء التي تشكل - مع البحر - أهم مفردات أحمد راشد ثاني. يقول بونفوا:"أمس في سيادة الصحراء، كنت ورقة وحشية/ وحرة في الموت/ لكن الزمن كان يُنضج، كمثل نُواح أودية ضيقة/ جرح الماء في حجارة النهار". مفردات تنتمي إلى عالم الصحراء، الوحشة، الموت، الجرح، والماء. صحراء الضيق والاتساع في آن واحد. اتساع الأفق وضيق الرؤية في أوج اللهب الساطع. لذلك نجد في الشاعر راشد الكثير من المتناقضات التي تخلق شعريته وشاعريته معاً. متناقضات تعبر عنها اللغة والموضوعات - المضامين والرؤى الغريبة لما يجري حوله من تحولات فاجعة تفتح أبواب الغربة والاغتراب. منذ بداية الكتاب يقرر الشاعر أن الليل يأتي ويأخذه، إلى أين؟ لا نعرف. لكن سياقات النصوص تعبر وتفصح وتفضح. فالليل هنا ليس سوى حالة مجازية تخفي رموزاً وعلامات مهمة سنحاول رصدها، لنتعرف إلى هذا العالم بما ينطوي الليل عليه من ملامح وتفاصيل وأسرار، الليل بما فيه من عتمة وظلام وأشباح وغربان تصرخ عبر العصور. في شعر أحمد راشد نبرة ألم تجاه ثنائية الزمان والمكان. محاولة لاسترجاع مكان وزمان لن يعودا إلا بالقصيدة والشعر، أي بالحلم. وهو ما تحاوله قصيدة الشاعر منذ بداياته، كيف يسترجع خورفكان، المكان الأجمل والأبهى، مسقط الرأس وسط البساطة الريفية، وملعب الصبا كما كان يقول أجدادنا الشعراء، هذه القرية أو البلدة. وعلى رغم الجوع الذي عاد إليها ليأكل التراب، فهناك لا تزال"مسرّة صبيانها بتناسل الأمواج/ ورقّة في الأشجار/ لا يصدقها أحد". وپ"في الوادي تركض أحجارها/ هاربة من الكذب/ الكذب على الليل/ الليل الواقف بين الأزقة/.../ في ذلك الحي الآفل/ تحت ارتفاع المنارة". لا يكتفي أحمد برصد تحولات المكان، فهو لا ينطلق من حنين أو نوستالجيا بكائية أو رثائية، بل يغوص في تحولات الشخص/ الفرد وما أصابه من تلعثم أمام التغيرات الصادمة. يمسك بالإنسان في أشد لحظاته تمزقاً، في العالم الذي انقلب من حياة البداوة البسيطة والشقية إلى حياة السوق المعولم بأدواته اللاإنسانية، حيث بات الشخص شخوصاً، والمرآة مرايا، وحيث"اضطراب شخوص الفرد"يولّد"فيضان المرايا"، فتترك الفكرة الرأس، ونرى كيف"يمشي السطر على الأمواج ويسقط/ يقوم من على الأمواج/ ويسقط". إنها"لعثمة"الجسد والروح والعقل، وسقوط الفكرة والكتابة. وهذه إحدى دلالات الليل. دلالة ثانية تتبدى في حلم فانتازي ينتج كتابة الهلوسة، كتابة تنتقل بين"الحوش"وپ"الدريشة"في القرية والفندق في دبي، أي بين عالمين غير متصالحين، بل متناقضين متصارعين، ما يجعل الشاعر/ شخص القصيدة، يعيد حكاية التمزق والانكسار. فهو يعود إلى بداياته:"وبعدما أغلقت بوابة حياتي/ ودفعت من رحم أمي/ إلى هذا العالم/ كمطرود وناء/ جلست... أجمع وجهي/ في ذياك الحوش/ تحت تلك الشريشة نوع من الشجر ينمو في الصحراء. ثم يعمق الشاعر مأساة الإنسان في هذا العالم، فتتحول من مجرد انتقال من القرية الحبيبة إلى المدينة القاسية، فينقلها إلى مأساة وجودية، واضعاً خط الموازاة بين الانتقال عبر المكانين والانتقال من رحم الأم إلى العالم الخارجي، حتى أن عالمه القديم لم يعد هو العالم نفسه، كأن يقول:"في معصمي يرن قيد الولادة.../ أنادي على جبال خورفكان فتهب لملاقاتي/ اكتشفت أن الجبال لا تنتظر أحداً/ وأن الأمواج قد فرت هاربة". رحم الأم يعادل القرية، والخروج من الرحم هو إغلاق لبوابة الحياة، فهو خروج إلى عالم يعيش فيه الإنسان مطروداً ونائياً. إنه أحد أشكال الليل، وصورة من صوره. وفي قصيدة"كلب يعرج في مرآة"ذات النفَس السوريالي، تتكثف سوداوية الشاعر والشعر، فيدخل في متاهات الحياة وسراديبها، حيث الكلب يبحث عن الشاعر ويقبض عليه"واقفاً عند فشل رائق"، ويصف الشاهر الموقف"لم يدعني أبكي/ خطف مني وقفتي/ وتركني في الليل/ يأتي الليل ويأخذني"عنوان المجموعة، ليبدأ حوار بينهما، وننتهي بالقبائل التي خاضت حروباً مع الظلام وهزمت، فيطلب الشاعر من كلبه الأعرج العودة إلى الخوف حيث"الحياة فكرة تعيسة خطرت في ذهني وأنا أمشي/ والوطن غبار تركته الذبابة/ وهي تركض خلف العصا". وفي مقطع ليلي من قصيدة"البحارة على حواف الملح"، يقول: الليل الفادح/ يملأ قربة العمر ويعرج/ في ممرات المرايا/ كذئب مكسور". الليل هنا حالة نفسية ومعنوية تحمل النقيضين، ليل فادح من جهة، لكنه يعرج في ممرات المرايا كذئب مكسور. لكن المقطع لا يكتمل، والصورة تظل ناقصة، إلى أن يفتح الشاعر قوساً على حالته النفسية والمعنوية:"يفتح المطر عينيه في غيابي/ تطير غيمة من الشارع إياه/ الشارع الذي ينحسر/ حين أمشي الآن/ جسدي في جيبي/ وروحي ظلام". انه الظلام الذي يسكن الروح أو يشكل مادتها وكينونتها. الظلام الذي بدأ منذ الولادة والخروج من عتمة الرحم الدافئ إلى ضوء العالم البارد. عتمة وضوء، بحر ويابسة، قرية ومدينة، وباختصار: الحياة والموت. هذه هي الثنائيات التي يؤثث أحمد راشد ثاني بها كيانه وعالمه الشعريين. عالم وكيان ينهضان على شعرية البساطة والرؤية والموقف من الكون والبشر والأشياء، وشعرية الابتعاد من البلاغة المنفوخة، لكنها أيضاً شعرية اللغة الطازجة والحارة التي تسمي الأشياء بأسمائها، وتحفل بالأمكنة ذات الطبيعة الشعبية التي تحمل روائح المكان القديم، بكل ما تشتمل عليه من ذكريات وأحلام وكوابيس... خصوصاً أن الشاعر باحث في التراث الإماراتي - الخليجي، وقد أصدر في هذا المجال عدداً من الكتب تعد مراجع حول هذا التراث.