إنّ التاريخ ينبئنا، ووقائع حياة الأمم عبر الزمان تؤكد لنا أن مع حُلكة الظلام الدامس ومن جوف الليل المدلهمّ يطل فجر الفرج والضياء والنور، وفي خضم الكوارث والمآسي الأزمات الجسام يبدأ المخاض المبارك لولادة أنوار العدل والأمن والسلام وأحداث المسيرة البشيرة المعاصرة تذكرنا بأن من رَحِم فاجعة الحرب العالمية الأولى خرج مشروع عصبة الأمم ومن محارق الحرب العالمية الثانية بزغت هيئة الأممالمتحدة وميثاقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي أجواء مخاوف ورعب الحرب العالمية الباردة بدأ التحدث عن نظام عالمي جديد وللأسف حارت الأمم والثقافات بشأن طبيعة وصياغة هذا النظام، وكتب الكثير وضخّتْ مراكز البحوث والدراسات رؤى ومقترحات بشأن هذا المولود المؤمل، ثم أصيب الجميع بخرس وصَمْت مُحْكَم على وقع أحداث مرعبة ومدمرة انتكست بالتوجهات الدولية الإيجابية وأدخلت المجتمعات البشرية من جديد بحرب عالمية رابعة من أجل مواجهة ظاهرة الإرهاب العالمي التي أفضّل تسميتها بظاهرة الترويج والتدمير فعبارة Terrorism لا تعني بحال الإرهاب، بل تعني الترويع والتدمير، وهذه مجرد إشارة عابرة إلى أمر ليس هنا مكان التفصيل فيه، إلا أن هذه الحرب المشروعة والمبررة في مواجهة كوارث ما يسمى الإرهاب العالمي قد وُظّفت - لكل أسف - من قبل جهات دولية عابثة توظيف سلبياً بل قبيحاً ومدمراً أنعش - إلى حد مؤسف وفي أكثر من مكان في العالم - مبررات الترويع والتدمير عند أكابر مجرميها وطواغيتها وغذّى نزعة مفاسد صناع ضلالاتها وآثامها وانتهى هذا التوظيف السياسي الأرعن بالمجتمع الدولي إلى محارق وفتن تنذر بكارثة عالمية لا تبقي ولا تذر وأحسب أن حالة تسونامي تدهور الأمن الاقتصادي العالمي المتفاقمة تمثل أحد أبرز إفرازات هذه الكارثة المرعبة. وهكذا ومع أجواء هذا الرعب والذعر الذي يجتاح غالب المجتمعات الدولية اليوم تنبعث أنوار الهدى والرشد من مكةالمكرمة وينهض المارد العربي المسلم في دنيا الناس يحمل مشاعل الضياء والأمن والأمان العالمي. ولِمَ العجب أن يشرق هذا النور من مكة؟ أليست إمامتها الأكثر تأهيلاً بنور القرآن وهدي الإسلام والأجدر كفاءة وخبرة لتبوُّء مواقع مسؤولية الإسعاف والإنقاذ الإنساني؟ أوليست هي الأَوْلى بتولي مهمة توجيه السفينة البشرية التائهة في خضم تلاطم أمواج طوفان عارم مدمر؟ أجل بكل تأكيد، إنها الإمامة المؤهلة لتحقيق هذه المهمة الإنسانية النبيلة وعلى أساس من الإيمان الراسخ بتحمل مسؤوليات هذا التحدي الكبير بادر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز فأطلق من الرياض عاصمة دولة القرآن والسنة مبادرته الإنسانية الجليلة، لتكون بحق إطلالة مشرقة دافئة في دنيا الناس تحمل رسالة إنسانية شجاعة ذات دلالات عميقة وسامية من أبرزها: 1- تبديد عقدة توجس الآخر من الإسلام والمسلمين. 2- دحض أكذوبة تعصب المسلمين ورفضهم للآخر. 3- تأكيد مصداقية المسلمين وجدية دعوتهم للحوار والتعارف بين أتباع الأديان والثقافات. 4- قطع الطريق على المتشنجين من أتباع الأديان أصحاب ثقافة صراع الحضارات وصناعة الموت. 5- تأكيد التناسق والتكامل بين خصوصية التمايز العقدي للمسلم والتعايش والتعاون مع الآخر. 6- تأكيد التزام المملكة منهج وسطية الإسلام ورسالته الإنسانية السمحة. 7- الدعوة للانعتاق من التقاليد الخاطئة التي أحدثها البشر في مفاهيم الدين والتدين. 8- فتح آفاق جديدة للعلاقات الدولية، والتكامل الثقافي والحضاري بين الأمم. والدلالة الأشمل لمبادرة خادم الحرمين الشريفين هي: تأكيد رغبة المسلمين في التعاون مع الآخر بكل تصنيفاته الدينية والثقافية والسياسية، من أجل بعث نظام عالمي عادل وراشد، يجل قدسية حياة الإنسان وكرامته، ويرسخ ثقافة سلامة الأسرة وأمن المجتمعات، ويصون سلامة البيئة، ويؤصل ثقافة الاحترام المتبادل، ويوفر للشعوب والمجتمعات السيادة والاستقرار، ويمكن من انبعاث حركة تنمية إنسانية راشدة. وعلى أساس من هذه المقاصد النبيلة للمبادرة انعقدت لها في مكةالمكرمة البيعة الكبرى من جموع علماء الأمة وقادتها ومفكريها وفي مدريد عاصمة العراقة والأصالة الحضارية قلدت وسام اجماع الترحيب والتأييد العالمي بكل تنوعاته، واليوم يُخطب ودها النظام العالمي، ويُشرّع لها أبواب الأممالمتحدة، ويلبي نداء رسالتها ومقاصدها الإنسانية السامية قادة العالم وفعاليته السياسية والدينية والفكرية والثقافية، ليصغي الجميع إلى ابن عبدالعزيز، حيث صوت الحكمة والرشد، وحيث الصدق والحب والإخاء، وليستنشقوا النفحات العطرة لرسالة الرحمة والعدل والسلام، وليتعرفوا على منطلقات راسخة لإجلال القيم الدينية الربانية والأخلاقية، وتحصين ميادين التنمية من الجشع والعبثية والاحتكار وحماية الغايات النبيلة للعالمية العادلة، والعولمة الراشدة من ممارسات وحماقات المفسدين في الكون، وليتفق الجميع من بعد على مبادئ ومعايير وضوابط ميثاق عالمي جديد، من أجل تعايش بشري آمن، وقد حدد بكل دقة ووضوح صاحب المبادرة وإمام مقاصدها الإنسانية السامية ملك مملكة الإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز مرتكزات هذا الميثاق بكلمات طيبات مختصرات: "لقد جئتكم من مهوى قلوب المسلمين، من بلاد الحرمين الشريفين حاملاً معي رسالة من الأمة الإسلامية، ممثلة في علمائها ومفكريها الذين اجتمعوا مؤخراً في رحاب البيت الحرام، رسالة تعلن: أن الإسلام هو دين الاعتدال والوسطية والتسامح، رسالة تدعو إلى الحوار البناء بين أتباع الأديان، رسالة تبشر الإنسانية بفتح صفحة جديدة يحل فيها الوئام بإذن الله محل الصدام". "ليكون حوارنا مناصرة للإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة، والعدالة في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الصراعات والحروب، والإخوة البشرية في مواجهة العنصرية". * رئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار [email protected]