سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تقول إن تناول الجسد يمتعها ... والكتابة ب "الإنكليزية" انتشلتها ...وتعتبر مكة إرثها الشخصي . رجاء عالم ل "الحياة" : السجن يكمن داخلنا ... ولم أستغل انفراجاً رقابياً لأصدر "ستر"
"الآن وحين أنظر لكتبي أراها كجسد واحد، لم يبدأ طفلاً، وإنما بدأ كائناً بالغ القِدَم"، تقول الروائية السعودية رجاء عالم، ولعل قارئ كتبها سيجد في هذه الكلمات توصيفاً دقيقاً لنصها، وما يفسر له تلك الحيرة التي تعتريه حيال ما تنجزه من كتب، واحداً تلو الآخر، كما يجلو الغموض الذي يواجهه كلما سعى إلى قراءتها، منذ أن أطلت على المشهد الأدبي السعودي في الثمانينات الميلادية من القرن الفائت. لم تعرف نصوص رجاء عالم إرهاصات البدايات ولا ارتباك المحاولات الأولى، وستتبدى صعبة، بل مستحيلة، محاولة العثور، على شيء من ذلك في كل ما كتبته وأصدرته. هكذا قدمت صاحبة"أربعة صفر"و"الرقص على سن الشوكة"إلى المعترك الأدبي، بلغة متينة وبناء فني متماسك حتى في تشظيه، فضلاً عن العوالم والفضاءات التي ترتادها في كتاباتها. رواية رجاء عالم تمزج بين الغرائبي والأساطير والحكايات والرموز والطقوس والتأملات الصوفية والحكمة والفلسفة، إضافة إلى أنماط من العلاقات والعادات، التي تنجم عن مجتمع ثري ومتنوع، وقائم على التعدد والاختلاف، مثل مجتمع مكة. ومثلما ظلت رجاء عالم، تمثل استثناء فريداً في ما اختارته من نص صعب وإشكالي، وانحازت إليه من جماليات وفنيات عالية، فإنها ما تزال تشكل تحد للقارئ والناقد معاً لوعورة، إذا جاز التعبير، المناطق التي تشتغل عليها، إذ لم يسلكها أحد قبلها من الكتاب. في ما يشبه الانقطاع للكتابة، تواصل عالم، بدأب وجلد لافتين، إصدار كتبها المتنوعة بانتظام، مؤمنة إيماناً عميقاً بما تكتبه، ولم تثنها التحديات التي تطرحها المجتمعات المحافظة على مثقفيها وكتابها عن الاستمرار، ولم ينل من إصرارها ونعتها ب"الغامضة"و"المتعالية". تحرك خارج الحدود لا تعالياً عليها لا تعترف رجاء عالم بكاتب أو كائن يمكن أن يكون نبتاً لمجتمع ما، بل تتهكم أحياناً وتسخر من مقولة"نبت كذا وكذا"، وتتساءل، بدلاً من أن تجيب، على تساؤلات"الحياة"حول فرادة صوتها إلى حد يراه كثيرون كأنها ليست نبتاً للمجتمع السعودي، ولا ضحية لعاداته وتقاليده، التي هي جزء من عادات وتقاليد عربية تضغط على الكاتب، خصوصاً عندما يكون امرأة، وتسيجه بالوصايا وتسجنه بالمواضعات:"أينه هذا الكائن الذي يمكن الآن أن نطلق عليه أنه نبت حَدٍّ جغرافي ما؟ أنت مثلاً نبت أي جغرافية؟ جغرافية الكتب التي قرأتها والبلاد والناس والحضارات التي عبرتها؟ أأنت نبت أم طير أم نفحة نور؟ هل يمكن قولبتك في ماهية أو هوية واحدة؟ أنت خلية في جسد كلي تحمل شفرته الوراثية، وكل فعل تأتيه هو نتاج تلك الشفرة. كل كلمة تقرأها، كل لوحة تخترقك أو نغمة تنقلك في الهويات. مقاومة هذا الاختراق فناء". وتستمر في كلام يشبه الضوء الذي يكحت ظلمة وظلالاً قاتمة، لتبدو المسالك إلى نصها ناصعة ودقيقة، وإن لم تكن واضحة:"منذ طفولتي كنت قابلة للانخطاف، للكلمة للنغمة لغصن شوكة. لا حصر للحشرات التي تتبعناها لجحورها في جبال السروات، لا حد للرمل الذي غزا أفواهنا ومسامنا وآذاننا من كثبان عرفات والنفود. ولملوحة البحر الاحمر والأبيض المتوسط، حين يسكنك الكون لا تملك إلا ان تندغم بخصائصه، ومن ذاك الإنصات للعالم والانتقال في الأماكن والهيئات تكون ملامسة لب الذات. وتتنوع مثل رقصة على ذات المحور وتلامس نفس نقطة الاستشراف، التي هي الكل في الواحد.. هذا ليس تنظيراً، المقابر الفرعونية التي زرتها بين الأقصر وأسوان لا تختلف عن معابد الحب في كاجاراهو بأقصى القارة الهندية ولا عن قطعان الحوت التي تلمع في المياه الباردة جنوب القطب. ولا تختلف عن النقوش القديمة على الصخور في نجران أو الوسم البدائي للإبل في الجزيرة، بل تتواصل مع مخزونات المتاحف وصالات العروض الفنية بلندن ونيويورك وباريس، سعي الإنسان الأول هو سعي الإنسان الأخير وهو سعي الذي أبدع جناح الحشرة، هو سعي نحو الجمال وفي الجمال، فكيف يمكن أن تُعَرِّف لي الآن ما تعنيه بقولك: نبت المجمتع السعودي؟". وترى في الإبداع تحركاً"خارج الحدود لا تعالياً عليها وإنما تمديداً لها لتكون كل الكون.. وسيلة توصيل لكل تلك العوالم التي تسكننا". الابتعاد عن الواقع تعتقد رجاء عالم أن مهمتها ككاتبة توصيل شحنة، وبالتالي تعتبر أن كل من يقرأ كتبها أو درسوا هذه الشحنة المبثوثة في كتبها، يسهم في تحرير تلك الطاقة،"وترحيل تيارها، الاستجابات على أنواعها هي موجات تدفع التيار خطوة أبعد.. ليست عملية اختراق ومنعة، هي أبسط بكثير، هناك خامات قابلة لتوصيل شحنة بعينها، أوساط موصلة، بسرعات وبدرجات نفاذ متفاوتة.. لكنها جميعاً استمرارية للشحنة التي تتشاركنا". ظلت صاحبة"جنيات لار" كتاب اشتركت فيه أختها الفنانة شادية عالم، بعيدة عن مقاربة قضايا الواقع وإشكالاته، في صيغ مباشرة، شبه مفصولة عن المجتمع، على الأقل هكذا كان ينظر إليها، من باحثين ونقاد، كانوا يبتعدون عن نقد أعمالها، لصعوبتها وتمنعها عن التناول النقدي العابر، ولاحتفالها بالجانب الطقوسي والأسطوري وميلها إلى التجريد، واستحالة رؤية الواقع حتى في أكثر زواياه تعقيداً. وبدا، من جانب آخر، أن الكاتبة كانت تستلذ بهذا النأي عن مباشرة الواقع، وفقاً إلى وصفة معروفة سلفاً. اسألها عن ابتعادها عن الواقع، وألم يقلقها انصراف النقاد والقراء عنها في فترة من الفترات، باستثناء مجموعة صغيرة ادعت أنها تفهمها؟ فترد:"هناك كائنات في مناطق نائية من العالم تمضي وجودها على هذه الأرض دون أن تلتقي الوجه البشري، هذا لا يبرر تلاشيها أو توقفها عن الوجود، لأن وجودها بشكل أو بآخر يحقق لكوننا توازناً حيوياً - نفعياً كان أو جمالياً - تواجداً فوق طاقتنا على الفهم والاستيعاب، أنا أومن أن لكل كائن مبرراً للوجود وحين ينتفي ينتهي. تخيل لو حملنا كائنات غابة النمر هذه التي لم يطأها بشر لتصير حديقة حيوان يرتادها طلاب الفرجة والترفيه. هناك اختراق في العوالم الضوئية، في ما يتعلق بنقل المعلومة وطي المسافات، الطي الذي تحدث عنه المتصوفة يحصل الآن بالصورة، هذا الاختراق أنا أعانيه منذ الطفولة بحكم نشأتي في بيت لله يسكنه البشر، بحكم التسابيح التي تنقل جدي في المكان والزمان، هناك أبواب بانتظار أن تُشْرَع بيننا وبين طاقاتنا السحرية، هذه الأبواب ستفوق ما تحققه وسائل الاتصال اليوم، ستنقلنا في إسراء جسدي وروحي لحيث لم نحلم بأن نكون، كيف أكف عن هذا السعي؟". وتقول إن هناك حاجة بقائية مجتمعية تقوم بها المؤسسات الاجتماعية، وحاجة وجودية وكونية نحو التجلي المطلق،"نسعى جميعاً لكي نلبيها بوعي أو بدون وعي، وربما بمجرد إنصاتنا للآخرين أو للكون. هنا أجد نفسي ويجدني من يتعرف صمته في صمتي وشفرته فيَّ. وهؤلاء لا يمكن أن يصمهم تعميمك حين قلت"مجموعة صغيرة ادعت أنها تفهمك"وهؤلاء ليس مهمتهم الفهم وإنما تدوير البث". رجل أم امرأة؟! أمام روايات رجاء عالم، التي شاركت في ندوات وفعاليات دولية، وترجمت رواياتها إلى عدد من اللغات الأجنبية، لا يمكن للقارئ أن يحتاج إلى سؤال نفسه، عن هوية المؤلف: رجل أم امرأة؟ إذ غالباً ما نكون إزاء أدب خالص، أدب حقيقي، يترفع عن مجرد إثارة الاستفهامات حول جنس كاتبه، ولا من شؤونه طرح مثل هذه الأسئلة. لكن القارئ وقد تربى على الفصل والتصنيفات الجاهزة، لا بد أن يظل في حيرة، بحثاً عن اللحظة التي تتبدد فيها الحدود، باتجاه أدب أو لا أدب، وكيف يمكن التوصل إليها؟ تقول رجاء:"قوالب النوع واللغة والهوية هي كما أفهمها مصطنعة، أنا أبحث عن صيغة الوجود فيما قبل التجسد وفيما يرتقي بالتجسد ويفتح حدوده بين الكائنات وحقيقة الكينونة، لذا لا أتوقف بالتسميات، وإنما تعنيني الرسالة التي يطرحها العمل الإبداعي. واتتبع كل ما يضيف ويشكل تحدياً واختراقاً لما يتجاوز الحد والقالب". اسألها هل تخطط أو تحضر لرواياتها، هل من طقوس معينة قبل الكتابة، فتقول:"أنا لا أُحَضِّر لرواية، أجلس فقط لكومبيوتري ويبدأ هو بالحوار وأصابعي، صدقني كتابتي هي فعل آلي، أحياناً يخيل لي أنني أكتب لمساً، وأن أصابعي هي الموصلات التي تتصل بالمكتبة الكونية، المهم أن أمنحها المساحة الزمنية للحركة ولملاغاة الفضاء المحمل بالشفرات". اسألها أيضاً عن روايتها الجديدة، أي جديد تحمله فترد:"روايتي الجديدة هي روايتي القديمة، نفس مكة التي تسكنني، نحن لا نسكن المدن ما لم تبدأ هي وتسكننا، وكلما جلست للكتابة وبدأت الإنصات تخرج أصوات مكة وروائحها، لكن في الرواية التي أعاني كتابتها الآن تتراجع الكثير من الأصوات، مثل نفي من سُرَّة الجبال المحيطة بمكة، والتي تتهاوى، حين لا تجد ما يرجع لك الصدى". ترى رجاء أن الكائن بالغ القدم الذي وصفت به نصها الروائي، طرح أسطورته في"حُبَّى"و"طريق الحرير"، وعبر لمحاولة التجسد في"سيدي وحدانة"و"خاتم"، ثم وجدته يتخفف للحياة في"ستر"..."الآن ربما كائني سيصير إلكترونياً ضوئياً... لا أعرف". الرقيب... ومجال الرؤية الكتابة لدى رجاء عالم مغامرة مستمرة، قد تنتقل من طور إلى آخر، لكن في سياق مغامرة كبرى مفتوحة. سنوات طويلة مرت قبل أن تقدم على مغامرة جديدة، وتكتب عملاً يمكن قراءته واستيعابه، من شريحة واسعة من القراء، أقصد رواية"ستر"وقبلها وإن بدرجة أقل"خاتم". ما وصفه البعض ب"التحول"أفرح قراء كثيرين، أن قدروا أخيراً على قراءة رجاء عالم والقبض على ملامح متماسكة لواقع يعرفونه جيداً. وفي الواقع على رغم ما يقال عن هذا التحول ونزول الكاتبة إلى القارئ، فإن رواية"ستر"لم تقامر تماماً بالعمق والتعقيد الذي تتطلبه العملة الإبداعية، وظلت تحتفظ لنفسها بمستويات جمالية تترفع عن السطحي والمباشر. من جهة أخرى، يعن للبعض من المتابعين لتجربتها أن يرى في"ستر"كتجربة تتخفف من الرموز والأساطير واللغة الطقوسية، التي طبعت رواياتها السابقة، تواكب المرحلة التي يشهدها المجتمع السعودي في سنواته الأخيرة، مرحلة تميزها تغييرات على أكثر من صعيد، إذ أصبحت هناك مرونة في تقبل النقد، وهامش واسع للتعبير. غير أن رجاء عالم تنفي أية سطوة لهذه المرحلة على متحولها الروائي، وتقول:"لم أكتب قط بالرقيب في مجال رؤيتي، لأن لحظة الكتابة تأخذ خارج الأطر، لذا فلا أدعي بأنني استغل في"ستر"انفراجاً رقابياً أو تغيراً مجتمعياً... واعتقد أن كتابتي باللغة الإنكليزية انتشلتني قليلاً من أغوار هذا الصوت، ودفعتني للطفو لطبقة من الوجود أقرب للسطح المألوف، إذ أدوات التعبير مألوفة أكثر. في كتاباتي الأولى كنت منصتة. الآن أنا مراقبة تستغرقني أكثر أدوات التعبير البصرية والمتحركة، لذا تختلف كتاباتي. حين نكف عن الاختلاف والتحوّر يكون الموت". الكتابة بصفتها تجسيداً لمدينة تتلاشى من المكونات الأساسية التي يمكن للمتتبع لتجربة رجاء عالم أن يلحظها على نحو لافت، حضور الفضاء المكي، والطريقة الفريدة في مقاربته روائياً، كونه علامة في التعدد والتنوع، وإشارة إلى قيم ثقافية واجتماعية استوعبت الآخر وتماهت معه. توغلت رجاء في المجتمع المكي، تخطت مكة، هذه المدينة الكوزمبوليتية التي تمتزج فيها الأعراق والعادات والثقافات في شكلها الظاهر وراحت تصغي ليس فقط إلى رجال مكة ونسائها، إنما أيضاً إلى حجارتها وثرثرة الصمت في أزقتها. يرتبط اسم رجاء عالم بمكة والعكس ذلك. تكتب رجاء عالم مكة وتنكتب بها، كلتاهما يكتب الآخر. في الروايات التي تمثل فيها مكة قاسما مشتركا، تتجلى النزعة الصوفية التي أضحت سمة تضفي تفرداً واضحاً على تجربة الكاتبة. توضح عالم علاقتها الحميمة بمكة فتقول:"مكة اعتبرها اعتباطاً كنزي الشخصي، إرثي الذي آل إليَّ عشقاً، استحقيته حباً وافتتاناً بمكان يحكيه أبي وجدتي، مكة التي قبضتُ ختام ملامحها في طفولتي". وأكثر ما يبهضها وتشعر حياله بخسران كبير، موت أحدهم:"لو لم يمت أبي منذ سبع سنوات لأنقذتُ المزيد من مكة، كلما توفي رجل من رجالات مكة أو امرأة من نسائها الأسطوريات شعرت بفقد حقيقي، لأن معهم تذهب مكة الفريدة". لأنها تكتب من ذاكرة هؤلاء، أو تكتب بذاكرتهم."وألاحق تلك الذاكرة التي تكفي أحياناً كلمة أو حكاية صغيرة لتلهمني كتاباً". كأنما حال عشق فريدة تجمعها بمكة، قصة حب عصية بينها وبين هذه المدينة، التي لا تكف عن استقبال وجوه وأفئدة جديدة. تسأل:"أتعرف كيف تكون في الحب؟"، ثم تجيب نفسها:"هكذا أنا مع مكة، نظرة منها تكفي لكتاب، آخر زيارة لي لمكة كانت لحرمها، مجرد ارتقاء طلعاتها ضربني بشوق طاغٍ. لم أنم لليالٍ أحاول قبض ذلك الشوق. إنها مسألة ترصُّد، أترصد كل حجر ومساحة رمل واختناق زقاق. كل رائحة لأعيد تجسيد مدينة تتلاشى". تفكر أنها بكتاباتها الأخيرة تلقي نظرة وداع على مكة، غير أنها تستدرك وتعترف بأن هناك حالات لا يمكن وداعها،"قد نعطيها ظهورنا، نتظاهر بأننا لا نلتقيها، لكنها تسكننا في كل جهاتنا وتوجهاتنا". تفضل مؤلفة"فاطمة"تخطي الحدود الجغرافية والمعنى الضيق للمجتمع، وتؤثر الكلام عن جزيرة،"جزيرة رجل عاشق، أبي، الرجل الذي بوسعه أن يرحل في جبل واحد، ويجعل كل بقعة من ذلك الجبل كونا". والد رجاء عالم ليس مجرد أب بالنسبة لها، وعندما تتحدث عنه، يبدو لنا أنها تتحدث عن شخصية من طراز خاص، شخصية أب لا تتصالح مع صورة الأب، التي صاغتها جملة من السلوكات والأنماط. وفقاً إلى ذلك انه يذكر ببعض الشخصيات الفريدة التي نلتقيها مصادفة في بعض الأعمال الروائية الفريدة. إنه عالم يقود إلى عوالم وأكوان. برفقته، تقول:"لا حد لليالي التي خيمناها في صحاري وجبال لا تسمع فيها إلا صوت الله، ولا حد للاكتشافات التي باغتتنا وتركت بصمتها في وعينا، رحيل أبي في الجزيرة وخارجها وفي الشعر وفي القرآن وضع الكون بين أيدينا نحن الأبناء. كبرنا على أبي الذي حين يتحدث تسمع إيقاعاً، مفرداته واختياراته شعرية بلا تعمد للشعر، هناك أناس يعلمونك كيف تتجاوز ذاتك". إلى الآن لا تزال تحتفظ بقصاصات تركها لها هنا وهناك، يعبر فيها عن فكرة أو عاطفة أو مجرد كلمة،"حين أتأمل خطه الآن أرى الرجل ذاته، في رقصة درويش دارها حتى أخذته للأعلى. وضعني في حركة عرفتُ معها أن السجن لا يكمن إلا فينا، القضبان نحن نُدَوِّرها حول ذواتنا ونتحجج،"نحن نبت كذا وكذا. نحن نفحة من روح الله في كون الله". تدوير النور العملية الإبداعية عند رجاء عالم التي ألفت عدداً من الكتب بالاشتراك مع فنانين ومصورين عرباً وأجانب، ليست"كتابة عن"، وتشعر بأن هذا التعبير غريب على فعل الإبداع، كما تعيه هي باعتباره"فعل تدوير الشحنة أو النور". وتلفت إلى أن الكتابة بالنسبة لها"محاولات للاكتشاف، وللذهاب بالمكان وشخوصه لغاياتهم التي لا تظهر للعين المجردة". وترى أن الكتابة الإبداعية ليست دراسة تقريرية،"هي مثل استجابة جسدية وروحية للمكان وأزمنته وعوامل تعريته لا نعيها، في الوقت الذي تتحور وفقها أجسادنا وأرواحنا. الكتابة الإبداعية هي الجسد المتحور، بينما الدراسة الاجتماعية أو العلمية التشريحية بوسعها أن تُشَرِّح ذلك الكائن لتقول لك عن المؤثرات وفعلها في تكوينه. قد يسألونك لم اخترت شكل هذه البصمة؟ نحن نولد بهذه التركيبة، بهذه الحواس والرؤية المهيأة للتلقي وللإرسال. في"سيدي وحدانة"كنت مثل أسفنجة تنضح بيت جدي لأبي وأمي، في"حبى"كنتُ أنا المتحورة بمكة الأسطورة التي سحرتني بكعبتها، في"خاتم"أيضاً جاءت أصوات بيت جدي لتنسج تلك الهوية التي هي جبل هندي. يمكنك اعتباري طينة تتلقى تحويرات المكان، تُرَجِّع صدى الأصوات التي تحتل رأسي في لحظة الانكتاب". والكتابة تعني لها الحياة التي لا تعرف ما تفعل من دونها"حين أرقب سرباً من الطيور مهاجراً لمنطقة دفيئة أعرف أن داخله نفس البوصلة التي تقودني لدفيئة هي الكلمة المكتوبة، تلك التي تركها سواي لكي تأسرني، أو التي أحاول بها أن أرجع بها صدى أسري... لا أعرف كيف يحيا أي كائن بلا حوار مع الكون، الحوار بأية لغة سواء مرئية أو منطوقة، حين نكف عن التواصل والتوصيل يكون الموت". سلطة وعي ...وسلطة ثقافة حصدت روايتها الأولى"أربعة صفر"جائزة ابن طفيل للرواية من المعهد الإسباني العربي للثقافة في تونس، على أن هذه الجائزة وسواها، لم تعمد إلى تكريس رجاء عالم كاتبة شعبية، ولم تمنحها شهرة فورية، هذه المكاسب لم تعرفها بعد الجوائز العربية التي لم تصنع شهرة لأحد، عدا القيمة المادية. على أن لبعض الجوائز امتيازاً ما، أهمية من نوع آخر، انتباهها لقيمة فنية عالية تتبلور بعيداً من الضجيج، التفاتها إلى لحظة جمالية متفردة تتأسس في منأى عن السائد والمألوف في الكتابة السردية العربية. من هنا فإن للجائزة التي حصلت عليها رجاء عالم أخيراً، أي جائزة المنتدى الثقافي اللبناني لها معان عدة، لدى صاحبة"طريق الحرير"، إذ تقول:"أسعدتني الجائزة لا لكونها مُنِحَت لرجاء عالم، وإنما كتدشين لآلية في الكتابة أحاول تكريسها من خلال أعمالي، هذا الخط الكتابي الذي يعتمد فتح السدود بين العصور واستلهام التاريخ لقراءة الحاضر واستلهام الحاضر لإعادة قراءة الماضي". وتضيف قائلة حول الاسم الذي حملته الجائزة في دورتها الجديدة:"أن أنال الجائزة التي حملت هذا العام اسم الناقدة خالدة سعيد لهو تميز مسًني وأفرحني، أشعرني بالانتماء لجيل رؤيا متميز، فخالدة هي ذاكرة للإبداع العربي، بمسيرتها النقدية المبدعة المميزة. هي عين متوقدة أسهمت في نقاشات عبقريات عربية مثل أنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال و خليل حاوي. خالدة سعيد هي المرأة التي اخترقت بالمرأة العربية لتكون صاحبة رؤيا نقدية ثاقبة، دشنت المرأة بصفتها سلطة وعي وسلطة ثقافة، سلطة بمفهوم السلطنة والمعيار و الوعي الشامل". وتؤكد أن خصوصية الجائزة هي التي :"استوقفتني بصفتها جائزة تتجاوز المحلية اللبنانية لتحتفي بالتميز العربي، كون الجائزة صادرة من تجمع فكري، يقول إن التغيير الفردي هو المُعَوَّل عليه في إحداث فروق نوعية حين تدخل المؤسسات الرسمية في سبات ثقافي". بدت رجاء، التي وصفها الناقد عبد الله الغذامي ب"الأرستقراطية"تمييزاً لها من نواحي جمالية وفنية عن سائر كتاب الرواية في السعودية، مغتبطة وهي تتحدث مع"الحياة"عن آخر إحصائية لوزارة الثقافة السعودية، التي تشير إلى كونها من الكتاب الأكثر مقروئية بين الجيل الأحدث:"أينما ذهبت التقيت التقيتُ بهؤلاء القراء والمبدعين، وهناك نسبة منهم تتعامل مع الأدب والفنون البصرية، وقراءتهم لا تستوعب فقط و إنما تتجاوز بما أكتب". فلئن ظهرت رجاء عالم للكثير من المتابعين غير مكترثة بالقارئ، أو بكيفية حضور رواياتها في المشهد الأدبي في السعودية، أو ما تعنيه هي لدى النقاد والمهتمين، في ما يشبه التعالي أو النأي المتعمد، فإن ثمة إشارات تقول بغير ذلك. أي أن الكاتبة تعي الإرباك الذي تصنعه روايتها للقارئ، الصداع الذي تسببه للباحثين، وتدرك الأهمية التي ستحظى بها هذه الروايات في لحظة زمنية معينة. تقول الكاتبة للباحث والناقد السعودي معجب العدواني الذي خلال إعداده لرسالة ماجستير من جامعة البحرين حول واحدة من رواياتها:"سترى في يوم ما اسمي محلقاً في عالم الرواية، ولن تندم على موضوع بحثك كونه خُصص لأحد أعمالي". كانت تطمئنه وتدفعه إلى تجاوز تردده، عقب ما سمعه من نقاد وباحثين لم يكونوا متحمسين كفاية لما تكتبه، لأنه يتفوق عليهم ويفضح هشاشة ثقافتهم وضيق رؤيتهم النقدية. فرط الحديث يجهض طاقة جبارة لم يعرف عن رجاء أنها أجرت مقابلة صحافية، أو تحدثت إلى وسيلة إعلامية سعودية أو عربية عن تجربتها أو مشاغلها الأدبية. ذلك الابتعاد عن ضجيج الإعلام، والانصراف عن فضول الصحافيين، رسخ من صورتها ككاتبة مختلفة كلية. لم يشغلها الترويج لأعمالها. لم تلجأ، مثل كتاب كثر، إلى الاضطلاع بدور العلاقات العامة، دور أبعد ما يكون عن طبيعة الكاتب والمبدع، من أجل الانتشار والحضور في كل مناسبة. إنما انصرفت إلى الكتابة، تتأمل العالم من حولها وتكتبه. ومع ذلك عرفها القارئ المهتم، عبر أعمالها وحدها، وتدريجا اتسعت رقعة تلقيها من قراء مختلفي المشارب، في الداخل والخارج، و تنبهت لها بعض دور النشر في الخارج، فترجمت لها ودعتها مؤسسات ثقافية غربية لتشارك في برامجها. وتفسر موقفها من الظهور في وسائل الإعلام المختلفة، قائلة بأنها تؤمن:"بأن هناك فاصلاً بين الذات التي تكتب وتلك التي تعيش، و أن الحوارات غالباً ما تخترق بواحدة للأخرى، أعتقدت أن ما لديّ لأقوله علناً كله موجود في كتبي، و لمن شاء التواصل معه، نحتاج إلى مساحة من الصمت، من الإنصات لكي نتصل بالمصدر، وحين نسمح للتداخلات باحتلال هذا الحيز الذي هو سر بقائنا فإننا نتجنى على أنفسنا والكتابة. أحياناً فرط الحديث يُجهض طاقة جبارة". تكشف روايات رجاء عالم عن قارئ نهم، شغوف بأصناف المعرفة، ليس فقط في حقل الأدب وفنونه، إنما تتجاوزه إلى ميادين وحقول مختلفة. ولا تنتقي صاحبة"نهر الحيوان"الكتب بناءً على جنس الكاتب و قرابته، وإنما على رسالته،"تلك التي تحملني خطوة أبعد، أو تمدني بلحظة أعمق أو تسحرني، أفتش عن السحر، الذي قد يجيء أحياناً من وصفِ لحظةٍ في يومٍ عادي أو إعدادِ طبقٍ أو فتح بابٍ على صباح. و لايهمني من كاتبها، فقط أتمنى لو أكونه. هناك كُتَّاب يجعلون من الكلمة كوناً، هؤلاء هم السحرة التي أرحل وراءهم". في ختام الحديث كان ضرورياً سؤال رجاء عن الرواية السعودية، هذه الرواية التي أحدثت وما زالت الكثير من الضجيج النقدي والإعلامي. لم ترد طبعاً في شكل مباشر، شأن جميع إجاباتها، لكنها قالت:"سمعت قولاً للدكتور معجب الزهراني يقول فيه : كتَّاب الرواية أخيراً بدوا لي مثل كائنات تسترد فرديتها، تسترد أجسادها، لم تعد أجسادها ملكية مجتمعية، وهي تعلن هذا الاسترداد ... تعلنه بتفجر وبشعارات ... لكنها في سبيلها لتهدأ لتتلذذ بهذا التحقق وتلك الفردية ...هذا القول استوقفني، وما زلت استرجعه كلما قرأت رواية جديدة". وتشبه انهمار الإصدارات الروائية من كتاب سعوديين، ب"الدفق"الحتمي لتوسيع فوهة النبع، الذي سيقود، في رأيها، إلى"ماء شاسع". وتدعو كتاب الرواية إلى عدم الرهبة"وأن يستمر التجريب ... لأنه الوسيلة للاكتشاف".+ لا تخجلني التجارب التي يحياها الجسد في مشواره للأبدية من المواضيع التي دأبت رجاء عالم الاشتغال عليها، على نحو مميز، الجسد وانفعالاته. وإذا كان هذا الموضوع انتشر في نطاق واسع عربياً، فإنه ظل أسيراً للمباشرة التي لا تعني سوى إثارة الغرائز والتعري للفت الانتباه والانتشار، وبقي نادراً تناول الجسد، في شكل عميق، يفتح نافذة جديدة على"حيواته"، ويثير عدداً من الأسئلة الشائكة بخصوصها. اشتغلت الكاتبة على موضوع الجسد، وحضر في رواياتها، لكنه من دون افتعال ولا بهدف تأجيج لشهوة، كان في حضوره أقرب إلى التجلي.سألتها:كيف تستحضرين الجسد في رواياتك، كيف أمكنك تأويله بطريقة لا تشبيهين فيها أياً من الكاتبات أو الكتاب، وماذا يعني لك الجسد؟ فردت:"الجسد كما أعيه و أعيشه - حين أغمض عيني وأعود لجسدي- هو هذا الامتداد من الآن لما لاحدّ له، جسدي هو رقعة الزمن التي نحياها جميعاً والتي مات فيها من عاشوا و يحيا فيها من سيولد، لا تفكر أن هذا تنظيراً". تعي الكاتبة الجسد بصفته الأبدية"التي تهمزنا لكي نستوعبها ونُفرج عنها"، وتعتبر كل الاكتشافات التي جالت في المخيلة الكونية و وجدت طريقها للتجسد،"الرقعة التي استلمتُها من الجسد الكلي قد تبدو لي محدودة لكنها حين أكتب ترجع لكليتها و تنطق من تلك الكلية و تلك المعرفة اللامحدودة، من ذلك الجسد الذي سنُبْعَث به بعد الموت للا موت". وتصر رجاء عالم على أن التجارب التي يحياها الجسد في"مشواره للأبدية"لا يخجلها و لا يضطرها إلى التخفي،"لأنها هي التي يقوم عليها بقاء اللحظة التالية، هي التي سيولد منها الجمال الآتي، الجسد و معزوفاته هي طاقة تُعيد الخلق لمالا نهاية، لذا فإن أجسادي، التي تُفصح أو تتبدَّى في رواياتي، هي هذه الطاقة التي أريد أن أمس بها الطاقة الكلية الممتدة في الآخر و الآخر و الراجعة إليِّ حتماً". وترى صاحبة"موقد الطير"أن الجسد عبارة عن ذبذبة تبعثها لترجع برسالة،"هي مجموع الشخوص التي تتعرفها تلك الذبذبة"، وتؤكد أن قوة تلك الذبذبة و نوعيتها"هي التي تربك الذين يخافون الجسد. أو أولئك الذين يعرًونه بغرض إحداث صدمة ترويجية، لذا يمتعني تناول الجسد، وطريقته في إحداث رد فعل حميم و كوني".