كنا متسمرين أمام شاشة التلفزيون متجهمين قلقين، تمر الثانية علينا كأنها سنة حين بدأت أنقرة تبث تباعاً صور عملية اختطاف الزعيم الأسير عبد الله أوجلان. ومع أن المشهد كان صادماً ومفجعاً الى أبعد حد لكل كردي وحتى لكل إنسان سوي متحضر ومنفتح على قيم الحق والعدالة والمساواة، فإن اللحظة التي بادر فيها القراصنة الى نزع الأشرطة اللاصقة من على عيني ووجه أسير حريتنا الكردستانية الأول وفتحه عينيه وهو مخدر ومحاصر، كانت اللحظة – الذروة. فما كان مني إلا أن انسحبت من أمام الشاشة وخرجت من المنزل منزوياً حيث لم أتمالك دموعي، على رغم أنني كنت وقتها، ومنذ منتصف التسعينات، أنتقد، وبشدة أحياناً، الزعيم أوجلان وحزب العمال الكردستاني على خلفية طرحه مبادرته الحوارية السلمية الأولى وتراجعه عن شعار تحرير وتوحيد كردستان. وهذا ما جعلني على خلاف حتى مع الوالد، بخاصة عندما كنت أشتط في النقد لكنني كنت مصراً على رأيي وعلى طريقتي النقدية الحادة تلك. وقد عدت بعد أسر أوجلان الى مراجعة مواقفي منه ومن التحولات الكبرى التي طرأت على خطابه وطروحاته التي كنت مؤمناً متطرفاً بها في أوائل التسعينات، ثم أيقنت أنها تحولات عقلانية وواقعية لا تتناقض مع الخط الكردستاني العام الذي لطالما تميز به حزب العمال الكردستاني، لا سيما أن الرجل بات، ويا للمفارقة، أقوى وأكثر فاعلية وهو سجين. لحظة اجهاشي بالبكاء تلك لم تكن فقط بدافع عاطفي وجداني بل عبرت عن توافق دفين لا شعوري على رغم الاختلاف مع أوجلان الزعيم والسياسي. والآن بعد أكثر من عقد على ذاك المشهد الأليم كنا على موعد مع مشهد اغتيال المناضل مشعل التمو على يد سلطة القتل البعثية. فقد كان الخبر صادماً لدرجة لم أصدقه للوهلة الأولى، ولعل اللحظة - الذروة كانت في مقطع الفيديو الذي نشر وهو ممدد على سرير الموت في مشفى فرمان في قامشلو والدماء الزكية تقطر مدراراً من جسده الطاهر. حينها أيضاً انتابني شعور مماثل لذاك الذي نجم عن رؤية أوجلان مكبلاً. وعلى رغم اختلافي الشديد مع الكثير من طروحات وتوجهات الراحل التمو بعد إطلاق سراحه مؤخراً، وتحديداً حول الموقف من التدخل التركي السافر في شؤون المعارضة السورية وكيفية التوفيق بين الانتماءين الكردستاني والسوري في هذه اللحظة التغييرية التاريخية لسورية والمنطقة، وعلى رغم إيغالي المفرط في النقد بحقه، فلحظة استهدافه وتصفيته جسدياً مثلت لحظة فارقة. فقد انتابني فوق الألم لهذه الجريمة النكراء ألم إسرافي في نقده، هو الذي لم أكن على علاقة أو معرفة مباشرة به لكنه كان مبادراً مشكوراً طبعاً الى الصداقة الفايسبوكية، شاركه في ذلك نجلاه فارس ومارسيل الذي أصيب معه في عملية الاغتيال. وحتى بعد تناولي إياه بالنقد البالغ خلال الفترة الأخيرة فوجئت بإضافتي كصديق فايسبوكي من قبل ابنه فيديل. فعلى رغم حدة نقدي لمواقفه وخياراته الأخيرة فحبل الود والصداقة الفايسبوكيين على الأقل بقيا من دون انقطاع. ولعل هذه إشارة تشجعني على طلب قبول الاعتذار منه وبالغ أسفي عن كل ما كتبت وقلت بحقه من نقد عنيف ربما تجاوز أحياناً حد النقد. وكلي الآن ثقة بأنه بنبله وسموه سيقبل اعتذاري الصادق. إنني أنحني لك أيها المشعل الذي ينير دربنا عرباً وأكراداً نحو الحرية في سورية. * كاتب كردي