هل الشاعر العامي الذي يقرأ ويكتب، هو الشاعر العامي المتعلم نفسه؟ هل قدرته على القراءة والكتابة، تعني أن الشاعر العامي يقرأ ويكتب بالفعل؟ ما أثر الفعل قرأ، والفعل كتب في نصوص الشاعر العامي الذي يقول إنه يقرأ ويكتب؟ يمكن القول إن الشاعر العامي، مرّ بفترتين مختلفتين من تاريخه الشعري، والثقافي. فترة سابقة على التعليم، وهي ليست بعيدة عنا زمنياً، ووقتها لم تكن لديه وسائل غير الذاكرة في حفظ شعره وترويجه. وفترةُ تعلُّمِهِ القراءة والكتابة، وهي الفترة التي استعان فيها بأدوات جديدة أكثر ألقاً واستدامة، حيث استعان بالدواة والقلم والقرطاس، وروّض الكلمة على السطر، وأرسل العبارة الشعرية في نظام كتابي متسق ومتوال. ومع تطور التعليم وشيوع الثقافات بين الشعوب تطورت لديه الذائقة، واكتنز لغة أكثر جدة، بل تعمق لديه فهم الحياة، واستجدت عنده إدراكات ومفاهيم ثقافية وإنسانية غيّرت من نظرته لكثير من الأمور. غير أن تلك المستجدات لم تكن كلها في متناول جميع الشعراء العاميين المعاصرين، بل اقتصرت على قلة منهم، وهذا شيء طبيعي، فالقدرات العقلية في البشر ليست كلها على درجة واحدة من الاستيعاب والفهم والابتكار والتحليل. هذه القلة، كما نلحظ في آثارها الإبداعية، أنتجت خطاباتها الشعرية بالصور الملموسة في دواوينها المتوافرة في السوق، أو في مواقعها الماثلة في الشبكة العنكبوتية، وهي خطابات متفاوتة المستويات والقيم الفنية والموضوعية، لكنها في معظمها تؤكد الأهمية الكبيرة للقراءة والمثاقفة والاطلاع، وتقف موقفاً مضاداً من مجرد أن يعرف الشاعر القراءة والكتابة فحسب. ولأن للقراءة بالمعنى الذي أقصد، فعلها الإيجابي في الاشتباك مع اللغة كأداة تعبيرية مهمة على المستويين الفني والجمالي، ولأن لها دورها الذي لا ينكر في نقل منتج الآخر كشريك في بناء التجربة الإبداعية الإنسانية إلى الشاعر نفسه، وبما أن هذا الشاعر لا يستطيع أن يتميز في الكتابة من دون أنا مبدعة من ناحية، ومن دون آخر مبدع أيضاً من ناحية أخرى، لذلك كله، لن يتمكن الشاعر المبدع من ترويض شوقه المتزايد إلى القراءة، أو من نفيه موقتاً، ذلك أن القراءة بالنسبة إليه لم تعد مجرد عادة يومية يمارسها كيفما اتفق، بل غدت مثل التنفس كما يقول آلبرتو ما نغويل، وأصبحت الرغبة فيها كما تقول فرجينيا وولف: مثل جميع الأشواق الأخرى التي تحير أرواحنا التعيسة، قادرة على التحليل. إذاً، القراءة هي الآخر، وهي الأنا، وهي العالم كله، وفي الكتابة تتحقق هذه الظواهر في شكل أوضح، والشوق إليها إنما يتم بوصفها كل هذه الأشياء، إنها الحياة في أحد أرقى أطوارها. هل القراءة إذاً من هذا المنظور، حاضرة في شكل واع عند شاعر اليوم، الشاعر المتعلم الذي يقرأ، ويستخدم القلم والورقة لكتابة قصيدته على السطور بحروف مرئية ومقروءة؟ في حال الشاعر المطلع، افتراضاً، لا بد للقراءة من أثرٍ ما في كتابته، وفي قصيدته بالتأكيد. فاللغة تتألق، والمفردات تزيد وتتجدد، وعمق التناول يحضر، وعين الرؤية تزداد إبصاراً. وإذا كانت القراءة أحد الأبواب الكبيرة الموصلة للمعرفة، فإن الفعل قرأ لا بد من أن يذكر في قصيدة شاعر قارئ.