سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
اكتشفها سائح وابناه ب"المصادفة"... والأهالي ومؤرخون يرجحون أنها لضحايا أوبئة ... والشرطة تتابع صخور في "بلاد ثقيف" تخفي"مقبرة جماعية" و"جماجم بشرية"عمرها أكثر من 100 عام
التحدي الذي نشب بين عبدالمجيد وأحمد ابني صالح الزهراني، كان الجسر الذي قادهما لاكتشاف موقع، أقل ما يقال عنه إنه مثير للجدل والفزع في آن. كان الزهراني يقضي إجازته برفقة العائلة في المنطقة الجنوبية، وفي طريق العودة قرر التوقف في بلاد ثقيف، الواقعة على طريق الطائف - الباحة السياحي، وهي منطقة مشهورة بطبيعة خلابة ومياه جارية. قادته المصادفة وابنيه للتوقف عند صخرة كبيرة في قرية"الدارين"في منطقة"ترعة ثقيف"، لها مدخل صغير مسدود بصخور صغيرة. وفي هذه الأثناء دخل ابنا صالح الزهراني في تحدٍ لسبر أغوار المجهول، وذلك عندما شاهدا فتحة غار، تحت إحدى الصخور سدت عشوائياً بحجر. تقدم احمد لينظر داخل الفتحة، مستعيناً بالقليل من الضوء النافذ لذلك الغار، ليشاهد عظمة ساق، لم يكترث لها واعتبرها لحيوان نافق، ولكنه اخذ بالزحف أكثر، ثم ما لبث أن شاهد جمجمة إنسان. حينها طلب من عبدالمجيد أن يشاركه النظر. فأمعن الشقيقان التدقيق، ثم تعالت صيحاتهما، فزعاً من هول ما شاهداه، وانطلاقا ليخبرا والدهما. وبعد أن أزاح والدهما الحجر عن المدخل، وجد نفسه داخل صخرة أشبه بالكهف، وكأنها حفرت لتكون غرفة،"بحسب الزهراني". كانت مملوءة بالجماجم والهياكل العظمية المكسوة بثياب بيضاء أقرب إلى الأكفان، ملقاة بعضها فوق بعض. القصة لم تنته مع الزهراني وابنيه عند هذا الحد، فشعوره بحجم المسؤولية وعظم الجرم بحق كرامة الموتى، جعله يتقدم ببلاغ رسمي لمركز شرطة"ترعة ثقيف"، وبدورها باشرت الشرطة التحقيق والمعاينة، وتم في هذا الخصوص استدعاء عريفة القرية"شيخ القبيلة"، لمواجهته بالأمر. أهالي القرية بمن فيهم عريفتهم، أكدوا عدم علمهم بهذا الموقع وما بداخله، غير أنهم ذهبوا في أحاديثهم إلى أن هذه المقابر الجماعية تعود لأشخاص ماتوا بداء الجدري في عصور قديمة، يرجح أن تكون قبل أكثر من 100 عام. "الحياة"بدورها وقفت على الصخرة التي عثر بداخلها على الجثث المتحللة، والتقت عدداً من أبناء قرية"الدارين"في بلاد ثقيف، في محاولة لاستقصاء المزيد من المعلومات والتفاصيل حول هذه الواقعة، فكان هذا التحقيق. تتوسط قرية"الدارين"بلاد ثقيف، وتبعد من الطائف بمسافة 140 كيلومتراً جنوباً. هي قرية جميلة يقطنها نحو 4 آلاف شخص. وتتميز بجمال طبيعتها والجبال الصخرية، ويتوسطها عدد من الحصون القديمة التي تؤكد أن حياة الحرب كانت موجودة في سالف تاريخها. وعلى الطريق الرئيسي لقرى ثقيف المؤدي الى قرية"قها"، وهي من قرى ثقيف أيضاً، تنتصب الصخرة التي تسكنها الجثث المتحللة، وهي ذات مدخل صغير لا يكاد يرى، وتجويف من الداخل، وجماجم بشرية ورفات بشر وعظام منخورة وبقايا أقمشة بيضاء يرجح أن تكون أكفان موتى، وهي محتويات الصخرة التي استخدمت ك?"مقبرة جماعية". ويقدر عدد الجماجم الموجودة داخل الصخرة بأكثر من 20 جمجمة بشرية، غير أن وجود علب مرطبات بين الجثث، يشي بأن هذا الموقع فتح في عهد قريب، في الوقت الذي يؤكد فيه أبناء القرية عدم علمهم بهذه الصخرة ومحتوياتها من قبل. "ذبابة المرض"وأساطير كبار السن سعيد بن حميد 65 عاماً كان أول شخص التقيناه، استقبلنا بابتسامة ابن القرية، غير أنه لم يتفاجأ بوجود صحافيين في هذا المكان، خصوصاً أن قصة المقبرة الجماعية أصبحت حديث الأهالي في القرية، بعد أن بلغوا بها من الشرطة. وعند سؤاله عن سر هذه الصخرة وحدود علمه بها، قال إنه لا يعلم عنها شيئاً ولا يعرف حتى مكانها، غير أنه أورد على مسامعنا قصة تواترها أبناء القرية عن آبائهم وأجدادهم، فحواها أن شخص قُتل في زمن من الأزمان البعيدة، وخرجت منه ذبابة المرض"كما كان يسميها سكان القرية"، وراحت تحصد أرواح السكان، وعندما كثر عدد الموتى وفاق مساحة المقابر، قرر الأهالي أن يكون الدفن جماعياً، فوجدت هذه المقابر. هذه الرواية لم تكن كافية لإشباع فضولنا كصحافيين باحثين عن الحقيقة، غير أنها ساقت الحديث باتجاه ثقافة المقابر والدفن في قرية الدارين، فما كان من العم سعيد الا أن اصطحبنا إلى مقبرة القرية الرئيسية، ليخبرنا أن هناك خطأ وقع فيه أهالي القرية، وقد وضعوا حدود مسجد بُني بالحجر وسط مقبرة القرية، لكنه استدرك بالقول:"رئيس المحكمة وقف على المقبرة وينوي ازالة المسجد منها". التجويف الصخري لحود للموتى قضينا متجولين في القرية نحو ثلاث ساعات، كانت هادئة جداً، وبالكاد تلمح المارة، وأثناء الجولة توقفنا أمام منزل خرج منه رجل ستيني، استقبلنا بالترحيب، اسمه محمد بن محيا الثقفي، أكد ابن محيا كغيره أن ليس لديه أدنى علم بهذه المقابر وما هو كنهها. وتطرق في حديثه حول هذه المقابر الى فرضية أن يكون هؤلاء الموتى هم من المجذومين أو ضحايا الأوبئة في أيام خلت، على اعتبار أن التجويف الصخري أشبه باللحد الذي يوضع فيه الموتى. وأكد في معرض حديثه أن"الجهل الذي عاشه الأوائل كان سبباً رئيسياً في وجود هذا النوع من المقابر، كونهم لا يعرفون أن إكرام الميت دفنه". "عريفة القرية" يطالب بفحص الdna كانت مقابلة شيخ القبيلة أو"عريفة القرية"كما يُسمى في هذه الديار، هي العنصر الأهم في هذه الرحلة، خصوصاً أنه الرجل الأول في القرية ولديه علم بهذه القضية، بعد أن استدعي من الشرطة. عوض بن أحمد الثقفي 50 عاماً، هو عريفة قرية الدارين. وصلنا الى منزله واستقبلنا بترحاب بالغ. رجل بشوش ملتحي، يعمل معلماً في مدينة الطائف، غير أنه لم يكمل شهرين منذ أن تسلم مهمات"عريفة القرية"من والده الذي شغل المنصب نفسه، قبل أن يدخل في صراع مع المرض. يؤكد ابن أحمد الذي استضافنا في منزله بالقهوة وحبات الزبيب واللوز البجلي، أن هناك ما يسمى ب?"الجُدرة"، وهي عبارة عن تجويف صخري وضع فيه الأوائل موتاهم المرضى، وهو الأمر الذي أسقطه على جثث الصخرة، مشيراً الى أن دفن الموتى المجذومين جماعياً كان عرفاً متبعاً في قرى المنطقة. وعلى رغم تأكيداته المستمرة أن هذه الجثث تعود الى أشخاص ماتوا بالأوبئة منذ مئات السنين، الا أنه لم يستبعد أية احتمالات أخرى، كأن تعود هذه المقابر لضحايا حروب سابقة أو حتى عملاً جنائياً، مطالباً في الوقت نفسه بقيام فرق متخصصة للوقوف على هذه الجثث واخضاعها لفحص الحمض النووي DNA، لمعرفة كل تفاصيل الوفاة وعمرها وفك الغموض المحيط بها. وعبَّر عن استعداده وأهالي القرية للتعاون مع الجهات الرسمية في تأمين مكان لنقل رفات الموتى من الصخور ودفنها في مكانها الطبيعي في باطن الأرض. صخرة أخرى جماجم أكثر وقبل أن ننهي حديثنا حول قصص الموت والجثث والمقابر في قرية"الدارين"الثقفية، راح ابن أحمد يستعيد ذكريات الطفولة، وكيف أنه كان يسمع من كبار السن أن القرية التي يسكن فيها ممتلئة بمقابر"الجُدرة"، في عدد من المواقع ولتأكيد ذلك، قرر أن يصطحبنا الى صخرة أخرى تبعد عن منزله عشرات الأمتار. طلب منا أن نزيح الأحجار المحيطة بالصخرة، لنتفاجأ بعدد لا بأس به من الجماجم البشرية وقد تحللت أجسادها تماماً على عكس جثث الصخرة الأولى. الكاتب والمؤرخ حماد السالمي، يعلق على هذه الواقعة بالقول إن تاريخ هذه المنطقة مليء بالأحداث والوقائع التاريخية، ويرجح أن تكون هذه المقبرة الجماعية لضحايا وباء الجدري الذي أصاب المنطقة منذ 100 عام تقريباً، وقضي على الآلاف من أبناء"الحجاز". يقول السالمي إن أهالي هذه القرى اعتادوا في الماضي على نبذ المصابين بأمراض مثل الطاعون أو الجذام الى مكان منعزل عن التجمعات السكانية، ويترك معهم ما يكفيهم من طعام وشراب حتى يتوفاهم الله، ويستشهد على ذلك بالجثث التي وجدت أخيراً داخل كهف في وادي عرضة والتي تعود لأناس ماتوا بوباء الجدري حين ضرب"الحجاز"، غير أنه لم يستبعد أن تعود مثل هذه الجثث لقتلى المعارك القبلية مع القوات العثمانية في نهاية القرن ال18. ودعا السالمي الجهات المسؤولة وذات الاهتمام للوقوف على الموقع والتحقق من وضع هذه المقبرة والتأكد من زمنها التاريخي من كبار السن في المنطقة وتوثيقه، إذ ربما تعود هذه الجثث لأناس من زمن أقدم أو لحدث مجهول، مشيراً الى أنه يمكن الاستعانة بوجود الثياب والأقمشة في تحديد تاريخ دقيق لهذا القبر ومن ثم فحص المكان، ونقل الرفات ودفنها في قبور، إكراماً للموتى. من جهته، قال المتحدث الرسمي في شرطة الطائف النقيب تركي الشهري، إن مواطناً تقدم ببلاغ يفيد فيه بالعثور على مقبرة جماعية داخل تجويف صخري بإحدى قرى بلاد ثقيف، وتم إزاء ذلك توجيه دورية أمنية الى الموقع للمعاينة، وأشار الى أنه تم استدعاء شيخ القرية إلى مركز إمارة ثقيف الفرعية، الذي أفاد بدوره بأن أهالي القرية يجهلون أية تفاصيل عن هذه المقبرة، وأسباب وضع مثل هذا العدد الكبير من الجثث في قبر جماعي. عالم شرعي: كرامة الميت دفنه ولو بعد حين قال أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الطائف الدكتور هشام الزير، إن الأصل في المقابر الشرعية، أن تكون في باطن الأرض، بحيث لا تكون عرضة للعبث تحت أي سبب كان. وأكد أن دفن الميت إكرام له حتى لا يتعرض لهوام الأرض، وإكرام لأهل الأرض حتى لا تؤذيهم رائحته. وحول هذه النوعية من المقابر، قال الزير إن ذلك يعود لثقافة أهل المنطقة أنفسهم في زمن من الأزمان، كونهم يعتمدون الصخور لتكون مقابر لموتاهم، غير أنه طالب بضرورة التحرك لحفظ كرامة الموتى، من خلال تسوير هذه المواقع لمنع الوصول إليها. وفضل الدكتور الزير جمع رفات الموتى من هذه المقابر وإعادة دفنها في باطن الأرض، مشدداً في هذا الخصوص، على أن إكرام الميت دفنه ولو بعد حين. ثقيف... التاريخ والفرسان والجبال المخضرة ارتبط اسم ثقيف منذ القدم بالطائف، وثقيف هي واحدة من أشهر قبائل المنطقة وأعتاها على مر التاريخ. وتذكر المصادر التاريخية أن الجد الأكبر لقبيلة ثقيف هو قيس بن عيلان، وكانت تتقاسم مع قبيلة قريش حكم منطقة الحجاز قبل الإسلام، ودخلت في حلف مع قبيلة هوازن لمواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوتي حنين وهوازن. ومن هذه القبيلة خرج عدد من الفرسان والقادة ممن شاركوا في الفتوحات الإسلامية، ومنهم المغيرة بن شعبة وأبو محجن الثقفي والحارث بن عبدالله وعروة بن مسعود والقاسم بن محمد الثقفي والحارث بن كلدة، وقد يكون أشهرهم الحجاج بن يوسف الثقفي. وبلاد ثقيف التي تتوسط الطريق السياحي الذي يربط الطائفبالباحة، بين قرية ميسان بلحارث وبني مالك، هي المنطقة الوحيدة التي ظلت محافظة على اسم القبيلة الأم، غير أن هناك الكثير من قبائل الطائف تعود في الأصل الى ثقيف، غير أنها تعرف بأسماء أخرى. وتمتاز بلاد ثقيف بجمال طبيعتها ووفرة المياه الجارية في وديانها، وبالتالي خصوبة الأرض زراعياً، وتنتج كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية، كالفواكه الصيفية والخضار بأنواعها. وتقسم بلاد ثقيف الى قسمين،"ترعة ثقيف"وتعني الروض المرتفع وهي أول حمى القبيلة، والمنطقة التي تقع فيها قرية"الدارين"، والقسم الثاني"قها ثقيف"وتعني المنع، أي أن هذه المنطقة مرتفعة وعصية ومنيعة، وهي آخر حدود بلاد ثقيف في تلك الديار. "الجُدرة"... مقابر المرضى والمسافرين يتعارف أهالي بعض المناطق"جنوبالطائف"على وجود ما يسمى ب?"الجدرة"، وهي عبارة عن مقابر تبنى بين الصخور، لظروف معينة من أهمها"بحسب إفادة بعض كبار السن"، أن يكون المتوفى مريضاً بأحد الأوبئة التي فتكت بالكثير من سكان هذه المناطق الجبلية في عصور مضت، أو أن يكون في قافلة سفر، فيتم وضعه في القبر الصخري، لعدم وجود أدوات للحفر. وتنتشر مقابر"الجُدرة"في المناطق الجبلية المرتفعة، خصوصاً في قرى جنوبالطائف مثل ميسان وثقيف وبني مالك، وهي قبور يوضع فيها الميت بين الكتل والتجاويف الصخرية، التي تشبه"اللحد"إلى حد كبير، ثم تُبنى ويردم عليها بالصخور والأحجار. ويزعم أهالي هذه المناطق بأنه ليست لديهم أية معلومات عن هذه القبور، سوى أنها تعود الى عهد الأجداد وأجدادهم، غير أن الكثير منهم يؤكدون علمهم بوجود مثل هذا النوع من المقابر في قراهم، وتعرف باسم"الجُدرة"، وتعود هذه التسمية إلى ارتباط القبر بالجدار، وفي بعض الروايات تنسب التسمية إلى وباء الجدري، الذي ضرب المنطقة في دهور مضت. وكانت منطقة الحجاز، تعرضت لعدد من الأوبئة، كان من بينها داء الكوليرا، الذي ضرب المنطقة للمرة الأولى في العام 1831ه، فيما شهدت اعنف ضرباته في العام 1865ه، واستمر من منتصف شهر آذار مارس وحتى نيسان أبريل، وأدى إلى مذبحة عظيمة. وفي العام 1893ه أودى المرض بحياة أكثر من 40 ألف شخص بين مكةوجدةوالطائف، واستمر وباء الكوليرا ليطيح بحجاج مكة طوال 22 عاماً على التوالي، وسجل في بعض السنوات أنه تفشى مرتين. وما زال كبار السن من أهالي الحجاز يؤرخون الأحداث بالسنوات التي حلت فيها الأوبئة، كسنة السخونة في العام 1337 ه، وسنة الحصبة في العام 1330ه، وسنة الجدري في العام 1358ه.