ما أحوج بني البشر إلى قادة يقتدى بهم، ويقتفى أثرهم، ويستدل بفعالهم، ولا شك أن الأنبياء حققوا أعلى مراتب الكمال البشري، والتواصل الإنساني، ولذا أمر الله بالاقتداء بهم، فقال فبهداهم اقتده وفاقهم رسول الله بالفضل، فكان سيد ولد آدم. وفي تأملات في إنسانيات رسول الله وقفة إجلال لشخصه العظيم، تشعر المرء بالفخر أن كان من أتباعه، وأسف لغياب تفاصيل هذه الشخصية عن ثقافتنا الفكرية. لقد حققت سيرة رسول الله مع النساء والأطفال وأفراد المجتمع كافة ما يعجز عن الإتيان ببعضه اللجان الحقوقية مجتمعة بأسرها، ولك أن تتأمل معي أنموذجاً بسيطاً له، وهو في سفره، والسفر مظنة التعب، وتغير الأحوال الإنسانية، حيث أخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء الصحراء انقطع عقد لي، فأقام رسول الله على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر، فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله وبالناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي، قد نام. فقال: حبستِ رسول الله، والناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله على فخذي، فنام رسول الله حتى أصبح على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم، فتيممّوا. فقال أُسَيْد بن الحُضَير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر! قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته". هل تخيلت معي موقف قائد الجيش المطاع المحبوب لدى أتباعه، حين تخبره زوجته بضياع عقد لها قد استعارته من أختها أسماء، فيتراءى في خاطره أمران: الأمانة التي طالما حدّث أصحابه عنها، إن القضية أكبرمن عقد زهيد، إنها تربية على حفظ الأمانات وردها لأصحابه، وتربية الموقف أبلغ من تربية الأقوال، فهل يفقه المربون هذه اللفتة النبوية، والأمر الآخر الحالة النفسية التي تعيشها زوجته لضياع العقد وإسهاماته في التخفيف منها، فتكون الحكمة المحمدية بحبس الجيش للبحث عن العقد، رسالة منه إلى الرجال أجمع عن عظيم حق النساء عليهن، وأن مسؤولية المرأة يشترك في تحملها الكثير من الرجال، وفي الحديث استحضار آثار الابتلاءات الفردية والجماعية، والاعتبار بها، وما يترتب عليها، إنك تلمح مشاعر الحسرة والقلق تهز كيان الجارية حينما أضاعت عقداً استعارته من أختها. وتلمح الشعور بالضعف والضيق والاضطراب الذي طَوّق الركب ورجال العسكر... من أجل عقد زهيد لا تربو قيمته على 12 درهماً... مع معاناة وعثاء السفر، ومشقة الرّحلة، وأنهم ليسوا على ماء.. وليس معهم ماء، فعظم الأمر عليهم، لما تقرر عندهم من شرطية الوضوء ووجوبه عليهم. وتمضي الساعات الحرجة ما بين ملتمس للعقد، ومرتقب للماء، لتهب نسمات الفرج الرخية مع تباشير الصبح الندية، وتجد عائشة عقدها أقرب ما يكون إليها، تحت بعيرها الذي كانت تركبه. وتنزل آيات الرخصة في ذروة الحاجة إليها، ليستبشر بها الصحابة، والأمة بأسرها، فتأمل كيف صارت البلية نعمة أبدية، والمحنة منحة ربانية، وآل أمر القلادة التي سَخِطها الناس، وتبرموا منها إلى بركة ويسر. وفيه بيان حال خيار هذه الأمة، وحال نبيهم في تلك الشدة، فاستثقل الناس ما حلّ بهم، حتى شكوا أمرهم إلى أبي بكر الذي ضاق ذرعاً، وأسىً من صنيع ابنته... فأتاها معاتباً ومؤدباً قالت:"فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول."ومما قاله لها كما في رواية:"في كل مرة تكونين عناء"هذا شأن الناس، فما شأن نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟! لقد تحمل أمرها بصدر رحب، وحكمة بالغة. إن ما أشغل الركب، لا يكاد يكون شيئاً في التاريخ النبوي الحافل بالمتاعب، وحينما يعتريه الأمر، يقضي فيه بحكمة، وصبر، ثم يستلقي بذهنه المكدود، وجسمه المهدود على فخذ عائشة وينام قرير العين حتى يصبح، ليظفر بالخيرين: آية التيمم، والقلادة. وتعجب حين ترى الاحترام المتبادل بين الزوجين، فها هي الفتاة ذات الخمسة عشر خريفاً تقدر الزوج الذي ينام على فخذها، فلا تتحرك مع طعن أبيها لها في خاصرتها كراهية أن تؤذيه، زوج يحتبس لأجل زوجته، وزوجة لا تتحرك تقديراً لزوجها، ما أعظمها من حياة مبنية على التواد، أما آن الأوان إلى نقل السيرة من بطون الكتب إلى حياة يعيشها الناس. * أكاديمية وداعية سعودية. nwal _al3eed @hotmail.com