شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة، نطالع الضجة و"الهيلمة"عندما يكون هناك قاتل ومقتول، والقاتل من قبيلة والمقتول من قبيلة أخرى، ويكون القتل في خانة العمد مع سبق الإصرار والترصد، والمشكلة التي أدت لمثل هذا الجرم قد تكون لأتفه الأسباب، وبسببها تزهق نفس اعتباطاً، يحدوها عنجهية جاهلية قبلية، قضى عليها الإسلام وصدر حكم الله فيها، قال الله تعالى النفس بالنفس والتشريع الإلهي نزل من عند الله خالق الخلق ولم يشرعه مخلوق أو قوانين وضعيه، فهو سبحانه شدد على حرمة النفس وصونها وحمايتها من عبث العابثين المجرمين الذين يعيثون في الأرض فساداً من دون رادع يحد من تكرارها وإفلات المجرم الذي يقدم على قتل نفس من دون حق. ونزل قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا إلى آخر الآية. وقدم القتل على غيره من العقوبات التي تلت هذا الأمر من صلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي. وأمرنا سبحانه بأن يشهد هذا القصاص طائفة من المؤمنين، فإذا عطلت هذه الحدود لأي سبب من الأسباب، فلن يكون هناك رادع، وسيكون لأي مجرم لديه نفس عدوانية ألا يتورع في الإقدام على القتل إذا كان يعلم انه سيفلت من العقاب لأسباب سنسهب عنها في هذا المقال. فلو لاحظنا انه منذ سنوات عدة كثرت جرائم القتل في بلادنا، ومعظم هذه الجرائم الشنيعة تتم لأتفه الأسباب كما ذكرنا، ومع الأسف الشديد انه عندما يصدر حكم قضائي ومن أعلى سلط قضائية بإقامة الحد على مجرم ما، تقوم الدنيا ولا تقعد، فنجد عشيرة القاتل تستنفر كل ما لديها من نفوذ ووجاهة لحماية رقبة القاتل من القصاص، فتبدأ هذه العشيرة يتقدمهم مشايخها والأمراء فيها، بالقدوم أفواجاً أفواجاً يلتمسون العفو والصفح عن القاتل، وتأخذ هذه العملية سنوات على الفر والكر بين عشيرة القاتل وعشيرة المقتول، ومنهم من يذهب إلى أولي الأمر لإقحامهم في الوجاهة، ويتدخلون ? جزاهم الله خيراً ? لفعل الخير من دون أن يكون لهم انحياز مع هذا أو ذاك، أو ضغط على طرف لحساب الطرف الآخر، ولكن بالتي هي أحسن، حتى لو تطلب الأمر الإسهام مادياً من دون إكراه، ولكن هذه الوجاهة تؤخذ على غير عواتقها وأهدافها ونواياها الصادقة. فعند ذلك يبدأ المزاد وتبدأ المتاجرة، فعندما يدفع مبلغ ما تزداد الرغبة في الزيادة وقد تصل إلى الملايين الخيالية، إلى حد التعجيز ويرافق هذه الملايين طلبات أخرى سيارات وجمال وخلافه، وتشتد المعركة بين مؤيد ومعارض، فالمؤيد يبدي نصحه بأخذ هذه المبالغ لأن المقتول انتهى أمره ولن يعود، وقبول الملايين التي يسيل لها اللعاب؟ فماذا يستفيد صاحب الدم عند الاقتصاص من القاتل إذا قتل؟ لن يستفيد شيئاً ولكن المال سيفتح أبواباً كانت مقفلة أمامه، وسيبدأ حياة جديدة ونعيم جديد، أما المعارض فيرى أن هذه الطلبات مبالغ فيها ولا بد من التعقل في الطلب والقبول وتزداد الوفود للإسهام والضغط، ومن هنا تبدأ المساومات بين القبول والرفض وحب الخشوم ورمي المشالح والعقل، وتزداد الوفود للإسهام والضغط، وأصبحت العملية بيعاً وشراءً، فهل مثل هذه الأمور يرضى بها مسلم عاقل ما دامت خرجت عن الطريقة المثلى والتي ذكرها القرآن الكريم فمن عفا وأصلح فأجره على الله. إن الذي يريد عتق رقبة فليكن ذلك لوجه الله سبحانه وتعالى ولا يريد من ذلك جزاءً ولا شكوراً، العفو لوجه الله لا يريد وجاهات أو واسطات وتدخلاً من مسؤول هنا أو مسؤول هناك، أما بهذا البيع والشراء والإسراف في المبالغ التي تطلب في مقابل هذا التنازل فلن ينالها ثواب من الله ولا تدخل في باب العتق لوجه الله سبحانه وتعالى، فماذا نستخلص من تلك المشاهد المؤذية، الاستنتاج الأول، هو تعطيل حد من حدود الله يجب أن يقام على الكبير والصغير، الغني والفقير، الكل سواسية في إقامة الحدود، وكم من مواطن نفذ فيه حد القتل من دون أن يعلم به أحد أو تسري أخباره بين الركبان، لأنه مواطن عادي لا وجود قبيلة أو عشيرة له، ولا شفيع أو حسب ونسب يقف إلى جانبه؟ وإنما أخذ جزاء الدنيا وجزاء الآخرة بيد الله سبحانه وتعالى. الاستنتاج الثاني، جرائم القتل ستزداد بسبب هذه الوساطات والمزايدات والحفلات التي ترافقها والتي لم ينزل بها من سلطان، لقد كثرت الجرائم من قتل واغتصاب وسرقات وسطو مسلح وانتهاك حرمات البيوت، وأصبح المواطن لا يأمن على نفسه وعائلته وأبنائه، ولم نر مثل ما نراه الآن، ومع الأسف انه يزداد يوماً بعد يوم والصحف حبلى بأخبار هذه الجرائم والخافي أعظم، والقصاص فيه حياة لأنفس كثيرة، فعندما ينفذ القصاص بحق مجرم أهدر دماً محرماً وبغير حق وفساد في الأرض، فبهذا الأمر يرتدع كل من تسول له نفسه الإقدام على مثل هذا العمل الشنيع ويحسب له ألف حساب وكذلك باقي الحدود في الجرائم الأخرى، إن قطع دابر هذا البيع والشراء والمزايدات والتي ضررها اكبر من نفعها، هو السبيل الوحيد للحد من تكرارها لإحياء الأنفس وعدم العبث بها. وكم طالعتنا الصحف مرات عدة عن أشخاص تنازلوا عن حقهم وعفوا عمن قتل قريباً لهم، وهذا العفو يتم وقت تنفيذ الحد في ساحة العدل، وهي أحرج ساعة في حياة القاتل ولها رهبة تقف معها القلوب وتحتبس فيها الأنفاس، عندما يتقدم صاحب الدم معلناً عفوه وتنازله عن القاتل لوجه الله، ولم يسبق هذا العفو مزاد علني أو بيع وشراء، هذا هو العفو الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة، ويكون أجر من عفا وتنازل عظيماً عند الله، لقوله تعالى ومن عفا وأصلح فأجره على الله أما الملايين التي تصل إلى 50 مليوناً للتنازل وما يشوبها من مواكب، وبعد ذلك أفراح وليالٍ ملاح، فهذا الأمر يجر إلى مثله الكثير، وليست بقصة الشمري والشراري والتي عشنا تفاصيلها وتناقلتها الجوالات ولاكتها الألسن. وكانت عملية القتل والإقدام عليه لسبب تافه جداً، وما لاقاه والد المقتول من إهانات يندى لها الجبين بسبب عنجهية وغطرسة الطرف الآخر وعشيرته واحتقارهم له، ولو أن حكم الله نفذ في القاتل، وبسببه برد دم والد المغدور من الفوران وطفت بموجبه نار الفتنة والانتقام وأخذ الثأر وما سيرافقه من أمور لا يعلم مداها إلا الله، فهل نعيد النظر حول مثل هذه الأحداث والحد منها، أم أنها تستمر ما دام هناك بيع وشراء من دون طلب المثوبة والأجر من الله. [email protected] *