في اللحظات القصيرة التي تغمرنا فيها السعادة والانشراح تغفو مخاوفنا قليلاً فنهرب في نزهة تفاؤل فتبدو الأشياء من حولنا مختلفة، فلا نكاد نتعرف عليها... زميلنا في العمل العابس دوماً نلاحظ أن لديه روحاً مرحة، وأن طرفته بالفعل كانت مضحكة، في الطريق نلاحظ أن سائق السيارة التي تجاوزتنا كان من اللطف أن التفت إلينا ورفع يده محيياً بابتسامة مؤدبة. يبدو أن الجميع في مزاج جيد اليوم، نتوقف عند محطة الوقود، ونلاحظ أن العامل المسكين يتنقل بخفة ورشاقة محاولاً خدمة الجميع، وظل محافظاً على هدوئه على رغم صراخ أحد الزبائن به وهو يستعجله، وكم تمنينا لو بادر بخدمته لأنه في ما يبدو لديه حالة طارئة. عندما اقترب العامل منا لاحظنا أنه على رغم تعبه وحال الإنهاك التي كانت بادية عليه إلا أنه استطاع رسم ابتسامة صغيرة على فمه سبقت سؤاله عن نوع الخدمة التي نريد... نمر على محل الخضار القريب من المنزل، فلنلاحظ أن البائع في مزاج رائع على رغم قلة إقبال الزبائن منذ أن بدأ السوبر ماركت القريب برشوتهم لمقاطعته، ويبدو من صناديق الخضار الفاسدة الموضوعة في إحدى الزوايا أن المقاطعة بدأت تنهك بضاعته، وعلى رغم ذلك فالابتسامة لا تفارقه، فهو يواصل إطلاق التعليقات الساخرة ويتنقل في أرجاء المحل، ويصر على أن يقوم بنفسه بتحميل المشتريات في السيارة، كم هو لطيف هذا الشاب. نعود إلى المنزل ونلاحظ أن الأشجار الجميلة التي وضعتها بلدية الحي أمام المنزل تعج بالعصافير التي تغني بسعادة متحدية أشعة الشمس الحارقة، وندخل المنزل، فتستقبلنا طفلتنا الصغيرة وهي تركض إلينا وكأننا للتو قد عدنا من سفر طويل، كل ما فيها ينبض بالفرح, وتذكرنا أن ابتسامة الفرح تشرق من العينين أولاً... نستلقي على السرير ونفكر بأن الحياة على رغم كل شيء جميلة، فالخسائر التي تعرضنا لها أخيراً ليست سوى جزء من اللعبة، وسيتم تعويضها متى أراد الله، والمرض الذي أصاب أحد الأقارب هو ابتلاء كتبه الله عليه، وشعورنا بالتعاسة من أجله لن يغير من الأمر شيئاً. نستيقظ في صباح جديد متثاقلين وبقايا الكوابيس والأحلام المزعجة ما زالت تتوارى ببطء، لا نشعر برغبة في أي شيء، إلقاء التحية قد يجر إلى حوار لن يكون مفيداً، في مثل هذه الظروف نحتمي بالصمت، ونذهب إلى العمل مع الطريق الممل نفسه فيستقبلنا زميلنا العابس بتكشيرته المعتادة نفسها، وما زال يصر على أنها ابتسامة، ثم يتساءل بخبث عن سبب مزاجنا السيء اليوم؟ بالطبع نتجاهل هذه الاستفزازات، ولكنه يصر على استثمار مزاجنا السيء فيحاول تعلم الطرافة ويعلق بأنه يبدو أن الجماعة في البيت عكروا المزاج، فيضحك الجميع ليس لطرافته، وإنما ابتهاجاً بحالنا السيء كما هي العادة. نخرج من العمل بعد يوم طويل عند أول منعطف يتجاوزنا سائق أحمق يلتفت إلينا ليتأكد أننا رأيناه وهو يشتمنا فيما رفع يده مهدداً، نتوقف عند محطة الوقود ونلاحظ أن العامل الكسول يتحرك ببطء متعمداً وكأنه سجين يؤدي أعماله الشاقة، وأسوأ من ذلك أنه وبكل وقاحة يبادر في خدمة السيارات الفارهة أولاً، ولعله يظن أن السرقة من هؤلاء أسهل. نمر على محل الخضار القريب من المنزل فيستقبلنا البائع ببرود وكأننا أتينا للتسول، يتجاهلنا كعادته ويواصل حديثاً لا معنى له مع زبون أحمق مثله. بعد الانتظار تبدأ الطقوس المعتادة, إذ نحاول أولاً اكتشاف أين دس الخضار الفاسد هذه المرة، وبعد التأكد من سلامة البضاعة ينطلق مارثون المساومات التي لا تنتهي عادة إلا بعد تدخل الزبون التالي، في كل مرة نخرج من محله نتساءل عن سبب مواصلتنا التعامل معه ومع أمثاله؟! نعود للمنزل ونلاحظ أن الأشجار الشاحبة التي وضعتها بلدية الحي أمام المنزل ما زالت تنمو في الاتجاهات الخاطئة مثل كل شيء في هذا الحي، فهي تغلق الرصيف بأكمله وجزء من الشارع، ولا أعلم إلى متى سنظل نراوغ بحذر في كل مرة ندخل فيها بيوتنا وكأننا لصوص! ندخل المنزل فتهجم علينا هذه الطفلة التي أفسدها الدلع وهي تصرخ كالمجنونة, تظننا إحدى لعبها, فهي لم تعرف التربية نتيجة إهمال أمها، ندفعها بعيداً ونطلب منها أن تتصرف بأدب وأن تحترم الآخرين، فتسرع إلى أمها باكية، وهي مصرة على أن نكون جزءاً من لعبها, فهي تعتقد أن كل ما حولها هو لتسليتها والترفيه عنها, نستلقي على السرير ونفكر بهذه الحياة ومصاعبها في كل يوم تزداد الأمور تعقيداً, وذخيرتنا من الصبر شارفت على النفاد. المشكلة أن الجميع يتصرفون وكأنهم غير مطمئنين لسوء حالنا، فهم لا يتركون فرصة للإساءة إلينا إلا واستغلوها أحسن استغلال, وكأن هناك مؤامرة يشارك فيها الجميع. في صباح ثالث يستولي علينا مزاج محايد, ونتساءل أي يوم في انتظارنا؟ كيف ستبدو لنا الأشياء عندما نشعر بالسعادة فإننا نحلق كالنحل لا نرى سوى الزهور والأشياء الجميلة، وعندما يطبق علينا الحزن فإننا نتغمص أعين الذباب، فلا نرى سوى الأذى وفي كل أمر سوءاً، عندما نكون سعداء فإننا نعطي الواقع أكثر مما يستحق، وعندما نشعر بالتعاسة، فإننا نقسو على الواقع بكل تفاصيله... هذا التناقض يفسد علاقتنا بهذا الواقع، والأسوأ من ذلك أننا عندما نقسو على واقعنا في الأيام السيئة فإننا نضطر في الأيام الجميلة إلى أن ننفق معظم الوقت في الاعتذار عما بدر منا من حماقات في تلك الأيام السيئة. هذا الصباح الجديد يبدو مناسباً لممارسة الاعتدال، فالمبالغة في التشاؤم تجعل الجميع ينفر منا، فلا أحد هذه الأيام في حاجة إلى مزيد من التشاؤم، كما أن التشاؤم في ما يبدو مرض معد، وبإمكان نشرة أخبار واحدة أن تقدم جرعة التشاؤم المطلوبة لأسبوع كامل... لذلك يبدو منطقياً أن نترك مهمة نشر التشاؤم لذوي الاختصاص، فالإفراط في التفاؤل ليس بالأمر الجيد. فالجميع سيعتقدون أننا نعاني من السذاجة، وأننا لا نعرف ما الذي يجري حولنا، الاعتدال يبدو مناسباً اليوم، فمعظم من نعتقد أنهم ناجحون ممن نخالطهم ونتعامل معهم يمارسون الاعتدال بشكل يثير الإعجاب، فهم يتصرفون وكأن لديهم مناعة عاطفية، فنحن نجد صعوبة كبيرة في قراءة مشاعرهم وأحاسيسهم من خلال سلوكهم وتصرفاتهم. والأغرب من ذلك أنهم عندما يخبروننا بطريقتهم المتزنة بأنهم يشعرون بالتعاسة فإننا نشك في صدقهم، ونظن أن لهم أهدافاً أخرى، فما يقولون عن مشاعرهم لا يتطابق مع سلوكهم وتصرفاتهم، وقد يكون ذلك هو سر نجاحهم, فالإنسان الذي يبدو سعيداً فيما هو يشعر بالتعاسة هو بلا شك يسير بثبات نحو النجاح والسعادة الحقيقية، إذن هذا الاستقرار هو ما يصنع النجاح. فالناجحون في الغالب يشبهون مشروب الكولا له المذاق نفسه كل يوم, وقد يكون ذلك سبب انجذابنا إليهم ليس بسبب وسامتهم أو ذكائهم، أو حتى مركزهم, بل هو هذا الاستقرار الذي يجعلنا نثق بهم أكثر من أنفسنا. [email protected]