امتداداً لمقال الأسبوع الماضي، سألني صديق: لماذا تراوح بعض الدول العربية الغنية جداً في منطقة الصفر التنموي، بينما تعيش دول الخليج العربي في بحبوحة اقتصادية، على رغم أن المنطقة العربية بشكل عام تقبع في الدرجة الثالثة في التصنيف العالمي؟!. وأجبته بنكتة كانت رائجة في بداية النهضة الإعلامية العربية قبل عقود قليلة، تقول النكتة إن عدداً من مسؤولي بعض الدول العربية المتجاورة جغرافياً لا مشكلة من ذكرها: سورية وفلسطين والأردن قررت ? في لحظة تجلي ? مصارحة المسؤولين في العراق الجار بأحقيتهم في الثروة البترولية التي يمتلكها من مبدأ: بترول العرب للعرب! وإتباعاً للقانون الكوني الواسع الذي ينص على توزيع الثروات بشكل عادل!. حل وفد هذه الدول العربية ضيفاً على العراقيين، وفاتحوهم في الأمر وشرحوا لهم فوائد توزيع الثروة العربية، وكيف أن هذا الأمر سيسهم في الارتقاء باقتصاديات الدول العربية جميعاً، وبالتالي سيكون لكل دولة عربية على حدة، القدرة على اتخاذ المواقف السياسية الحرة التي تعبر عن رأي شعوبها من غير خنوع أو ركوع لضغوطات أطراف خارجية بسبب المعونات الاقتصادية التي تشترط التبعية السياسية. فرح العراقيون بهذا التوجه، وبدلاً من أن يفهموا أنهم هم المقصودون بهذه الزيارة، طلبوا مهلة لساعات قليلة كي يتمكن بعض مسؤوليهم من تجهيز حقائب السفر للذهاب مع الوفد إلى الدول الخليجية!. يمتلك العراق احتياطياً ضخماً من البترول، وأرضاً زراعية من الدرجة الأولى، ومصادر مائية لا تنضب ولا تجف و25 مليون مواطن معظمهم على درجة كافية من العلم، وعشرات الآلاف منهم خبراء في مجالاتهم. فلماذا عاش المواطن العراقي منذ انتهاء الحقبة الملكية وحتى اليوم في ظروف سيئة وفي فقر يكاد يلون الخريطة العراقية بالكامل؟!. إيران على الجانب الآخر للخليج العربي، تمتلك احتياطيات ضخمة من الغاز والزيت ويعيش بها 50 مليون نسمة، وتتمتع بأراضٍ زراعية شاسعة. ومع ذلك فإن دخل الفرد بها يعتبر من أدنى الدخولات على مستوى العالم!! لماذا تحولت الحال الإيرانية إلى الأسوأ منذ قيام الثورة الخمينية وحتى الآن؟!. لماذا يحدث هذا في العراقوإيران وليبيا والجزائر ونيجيريا وغيرها من الدول الغنية بثرواتها الطبيعية، الفقيرة في واقع الحال؟. يمكنني اختصار الإجابة في جملة واحدة فقط: ثقافة الحكم. ثقافة الحكم في هذه البلدان تقوم على استراتيجيات وخطط"وقتية"تضمن النجاح الموقت لرؤوس الحكم، ولا ضير في فشل الوطن كاملاً على المدى الطويل. فالوطن بالنسبة لهؤلاء ليس هو التراب والناس، وإنما هو الفترة الزمنية القصيرة التي يعتلون فيها كراسي الحكم!. الوطن بالنسبة لهم ليس إرثاً ولا مكتسبات تراكمية تتكون على امتداد الزمن، وإنما هو"فكرة"أو"ثورة"أو"مذهب"جاءوا به على ظهر الدبابات أو من خلال فوهات البنادق! وعليهم الحفاظ على هذه الفكرة أو الثورة أو المذهب والعمل على تسمين الاعتقاد بها وإشباع حاجاتها حتى وإن جاع المواطن وفقد الحاجات الضرورية. على الجانب الآخر، تعيش السعودية وبقية أخواتها في المنظومة الخليجية في بحبوحة من العيش بسبب الاستقرار السياسي القائم على التفاهم الكامل ما بين الحاكم والمحكوم، والاستقرار السياسي هو الأساس والقاعدة لأي رخاء اقتصادي. ثقافة الحكم في السعودية على سبيل المثال تعتمد على أمر أساسي وهو اعتبار المواطن على رأس أولويات العمل الوطني، وهذا ما جعل الفرد السعودي يعمل من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الشعب، والشعب من اجل الوطن، والوطن ? في دورة عكسية مباركة ? يعمل من أجل الفرد. وما ينطبق على ثقافة الحكم في السعودية ينطبق على دول الخليج الأخرى، فقد تفرغ مواطنوها للعمل والبناء كرد فعل على ثقافة حكم متطورة في ظل اتفاق تام على ضرورة الاستقرار السياسي وبالتالي جني الخيرات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. يقول لي الدكتور أحمد الكبيسي في لقاء جمعني به في دبي قبل نحو العام: إن العراق كان يعيش في الفترة الملكية القصيرة التي عاشها في رفاهية عظيمة يصعب تصديقها على من وُلد بعد ثورة عبدالكريم قاسم عام 1958، التي جاءت بمحمد نجيب الرفاعي كبديل للملك فيصل الثاني، كان العراقيون من الثراء بحيث لا تجد متسولاً في الشوارع العراقية عموماً، وشوارع بغداد بشكل خاص. ويحكي لي صديق مصري تجاوز عمره الثمانين عاماً عن حال الشوارع المصرية في أربعينيات القرن الماضي، وكيف كانت تُغسل بالماء والصابون كدليل على الرفاهية التي كانت تعيشها أرض الكنانة. كنت أتمنى لو أن العمر امتد بالزعيم المصري جمال عبدالناصر إلى اليوم لأرى إن كان سيستمر في الدعوة إلى تحويل الملكيات العربية إلى جمهوريات، أم أنه سيعرف أن الملكيات هي طريق الخلاص لكل شعوب المنطقة المحاصرين في سجون الأفكار والثورات والمذاهب التي لا تصنع حبة رغيف واحدة. إعلامي سعودي www.abdullahnassir.ektob.com