جاري بائع الخضار غاب أسبوعين مما اضطرني للذهاب لآخر بعيد، وبعد تلك المدة رأيت جاري وخضاره معروضة وكأنما سقط من السماء فانعطفت بسيارتي بسرعة نحوه ووقفت أمامه وسلمت عليه، وسألته: ما الخبر؟ أين أنت طيلة أسبوعين، وكيف تفرط في رزقك؟ فضحك بملء فيه، وجرني من يدي، وجذب لي كرسياً، وطلب لي الشاي ثم قال: كنت في وظيفة للحكومة دامت يوماً ومنحتني وظيفة اليوم الواحد سنين من التجربة، واستطرد في حديثه بعد أن استفسرت: كيف يمنحك يوم واحد تجربة سنين؟ قال: نعم! فقد اتصلوا بي يبشرونني بأني توظفت في الحكومة فقلت: الحمد لله فرجت بعد أن اشتدت, ولم أدر بنفسي إلا وقد قفزت عالياً مصفقاً بيدي... فهذا اليوم سيكون يوماً مشهوداً في حياتي، ففيه سأقفل دكان العناء، وبيع الخضار، ومفارقة الحظ العاثر، وألج بيت الحكومة الوارف الظلال موظفاً جديداً بعد أن قبلت بشفاعة والد أحد زبائني. وبدت أول مشكلة في سيارتي المعدة للخضار، كيف أركبها وأدخل بها الإدارة ونوافذ الموظفين كلها تطل على المواقف، وسيرون"وانيتاً"قديماً مصدوماً من كل جهة مصاباً بإسهال ورشح... أردت أن أستعير سيارة أحد الجيران فوجدته قد غادر، فتذكرت سيارة أخي فكلمته فوجدتها في الورشة، فضربت خمساً على خمس، فليس من مفر من الحضور لمقر الحكومة التي وظفتني بعد محاولات عسيرة وحب"خشوم"، وانتظار بالساعات الطويلة، وزيارات متكررة بسيارات مستأجرة لبيوت المسؤولين الذين تكرموا وأضافوني لسجل المواطنين المقبولين للحياة، فتذكرت أن أستأجر - كما كنت أفعل - سيارة افتتح بها دوام الحكومة، فمررت على صاحبي"الزول"الذي عرف إني أريد الحكومة لا حلقة الخضار. دخلت الإدارة وفي المصعد"شيكت"على العمامة وتفقدت أزرار الثوب الجديد و"الكنادر"اللماعة، وآخر شيء تأكدت منه كان"الكبك"ثم مسحت على اللحية المشذبة التي لا تستطيع أن تمسك بها، وبخطوات وئيدة ثابتة دخلت الإدارة فإذا بالمدير أمامي... عرفته من حدة قسماته ونبراته العالية وأصواته التي إنداحت في الممرات، دلني عليه الفراش الذي دخل عليه بالقهوة وأنا، فاعتذر مني بأن سيادته في دورة المياه الملحقة بمكتبه، وما أن خرج المدير ورآني حتى سألني هل أنت الموظف الجديد فلان؟ قلت: نعم"سيدي"أنا فلان الفلاني تخصصي... قال مقاطعاً"بس، بس"، هل وقعت؟ على أي شيء؟، على البيان؟ تساءلت: أي بيان؟ قال المدير: بيان الحضور والانصراف، قلت: لا. هنا صاح المدير: هات البيان يا ... ثم وقعت، بعدها وقعت على"ماصة"متهالكة، وكرسي أعرج، وقالوا لي: هذا مكانك فاسترح! كنت أسمع بالبيان، أين البيان أرفعوا البيان، هاتوا البيان فظننته بياناً عربياً قديماً يتهكم عليه الناس, فإذا هو بيان بأسماء الموظفين، يتلاعب بأقدارهم... ففيه يوقع اليوم عن الغد، ويوقع الغد عن اليوم، وتصحح أوضاع، وتملأ خانات موظفين بلا وظيفة، وتكتب أعمال بلا نتيجة وباختصار هو للظلم ستار! صارت العيون ترسل إشعاعاتها ترصد حركات الموظفين، ولحظي تسمرت أمام جثة كانت ملتفة بعمامة حمراء، وساقها على مكتبها مرفوعة من دون حياء، لا تعبأ إن كان حذاؤها في وجوه الآخرين، أو معطلة لمصالحهم... بقيت الجثة ساعة ثم أحياها الله وتمرغت على الأوراق، وتمطت، وتثاءبت، ثم جرت زميلها قائلة: هيا نلعن الشيطان. التفت فلم أرَ من الضجة والزحمة أحداً سوى شخص واحد يتلاعب بأصابعه على مفاتيح الحاسب ليدخل الخطاب، سألته ماذا تعملون؟ قال: كما ترى نفطر ثم نسولف ثم نقرأ الجرائد ثم نصلي ثم نتوكل على الله. قلت وهذا الذي تثاءب وخرج؟ قال هذا ذهب ليطعم الدجاج، قلت: وهل الإدارة متخصصة في الدجاج، فضحك وقال: لا، ولكن زميلنا عنده"فقاسة"، وأخوه مدي، وأبوه شيخ... قلت وأنت لماذا لا تطعم الدجاج؟ قال أنا أطعم الأولاد، أخرج مع الأذان إلى المدرسة، واقذفهم في البيت وأعود عاجلاً فأرى عيون المدير تتلمظ، لألحظ بعد دقائق أن جزائي كان أكوام المعاملات بينما كوفئ المهمل بانتدابات عدة! كان شخص يتردد نراه يدخل ويخرج تتدلى أسلاك الجوال على جوانب جسمه الممشوق ويمر صامتاً منصتاً لأذنيه أو هو؟ أهو أصم وأبكم؟ لماذا لا يسلم؟ قال الموظف بصوت هامس وكأنه يحذرني: هذا قريب المدير، يأتي ضحى ليأخذ الصحف، وبعد الظهر يعود للإدارة من جلسة الأسهم، ليغادر إلى الدار، قلت: وهل اسمه في البيان؟ قال: نعم قلت: وهل يوقع؟ فضحك زميلي وقال دائماً يوقع للسادة! أذن الظهر وأسرع زميلي لأولاده، وأسرعت للوضوء، وبعد الظهر كانت الجلسة الثانية للقهوة تتخللها كل الحكايات, بدءاً من القرية حتى البلد الذي أوفد إليه زميلي الذي أخذني لأتعرف على واحد ممن يرزقون الناس, إذ دخلنا وصبت القهوة وتوافد الحكواتية والبارع من يضحك أكثر وينزل إلى السر أكثر، وفي رجوعنا سلمت على رجل يحتل مكان خمسة وتصل كرشه مقدار أمتار عشرة، قال لي زميلي هذا يرفعك إن أراد ويخفضك متى شاء، قلت: كيف؟ قال هو يعطي الدرجات للموظفين ويحرمهم، وفجأة يمر بنا رجل يعد أصابعه فقد نسي واحدة من وظائفه التي يستولي عليها وجاء ليأخذ رواتبها غير أنه مرهق فهو يداوم في الأسبوع ساعة حين يأتي ليسلم على المدير العام. أعطيت ورقتين واحدة لأعلقها في رقبتي والأخرى أعلقها في رقبة سيارتي ليجوز لها أن تدخل المواقف ويحق لي أن ادخل باب الإدارة, وكلانا صار وضعه صحيحاً بقيود، إلا القهوة التي أحملها في محفظتها فلا بد أن يتحقق من شخصيتها، ومرة نزلت لأخذ ورقة نسيتها في سيارتي فإذا الأرض بيضاء ليس بفعل الثلوج وإنما فرشتها أعقاب السجائر، وإذا منتجوها قد شكلوا حلقات ذكر أشكال الهروب والتخفي عن المدير وأساليب الحضور في الغياب وآخر المقاطع وجديد النكات. قلت لزميلي استودعك الله، فسأعود لخضرتي وخضاري فهما خير من الجدب،. ودعت جاري بعد أن نقدته 100 ريال ثمن الفاكهة شاكراً له، ومهنئاً بعودته، مبدعاً للحياة لا قاتلاً لها. [email protected] +