استطيع القول إن أبرز عنوان في منتدى جدة الاقتصادي هذا العام، هم الصينيون، بل هم أقرب إلى أن يكونوا"نكهة"المنتدى. والغريب أن المشاركة الصينية الواسعة لم تحظ ب?"ضجيج إعلامي"، مقارنة بما حدث في مشكلة تسجيل المشاركين وحصولهم على بطاقات الدخول ومقاعد المشاركين... الخ، وهي المشكلات التي حظيت باهتمام كبير من الصحافيين على حساب أول مشاركة صينية تعلن قدوم شركات ومستثمرين، وقبل ذلك كله، فكر جديد مستنير! وما يلفت الانتباه أيضاً أن المشاركة الصينية، لم تحظ بتعليق من جانب المحللين الاقتصاديين، سوى من مقال كتبه الدكتور أسعد جوهر في صحيفة المدينة. لكن تجدر الإشارة إلى أن عدداً من الكتاب، مثل الدكتور أمين ساعاتي والأستاذ عبدالله أبو السمح، كانوا أول من طالب بالاطلاع على التجربة الصينية والاستفادة من خبرات شركاتها. وكنت قبل المنتدى بأعوام عدة، اطلعت على التجربة الصينية، وأذهلني هذا النموذج الذي حاول فيه أحفاد"التنين"طوال العقدين الماضيين أن يقدموا"الاشتراكية"في صورة جديدة ومعدلة! حسناً، وقبل أن أشرح بإسهاب تاريخي، كيف تمكن العملاق الصيني، من أن يكوّن نموذجه الخاص، لا بد من أن أشير إلى أن المتحدثين الخمسة في المنتدى، وهم السادة، Ren Yuling و Niu wenyaun و Liu Zhaomeng و Hu Wei وWang Yingying، خلصوا جميعاً إلى نتيجة واحدة، هي أن نموذجهم الخاص بدأ بالمواطن الصيني بتخليصه من المشكلات الاجتماعية والصحية والاقتصادية، وذلك بالتركيز على مخرجات التعليم، وخلق متغيرات اقتصادية مشجعة للإبداع البشري، مع عدم الإخلال بالثوابت الأساسية، وهي الفلسفة التي قامت عليها الثورة الشيوعية! قال المتحدثون، إنه لا يمكن لأي لاقتصاد أن يغلق الباب على الانفتاح، لكن في الوقت نفسه، ينبغي عليه أن يراعي ثوابته الأمنية والاجتماعية، أي كثيراً من الرأسمالية وكثيراً من الاشتراكية! أهم عنوان في الانفتاح الصيني هو تجربة الانفتاح الاقتصادي الاستثماري الأجنبي التي حولت التجربة الصين إلى عملاق مستيقظ ونشيط، وجعلت من الصين محط أنظار المستثمرين في العالم! والنتيجة: وصل عدد الشركات العابرة للقارات إلى أكثر من 800 شركة، جاءت بصورة خاصة من أميركا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، وتوسع محتوى وحجم الاستثمار خصوصاً محتوى التكنولوجيا ومحتوى الإدارة، كما توسعت مجالات الاستثمار، ولاح رواج التجارة والأعمال المصرفية واهتمام المستثمرين الأجانب بظاهرة الانفتاح الصيني. كيف حصل ذلك؟ باختصار شديد عملت الصين على استخدام الاستثمار الأجنبي كمبدأ استراتيجي إذ وصل الاستثمار الأجنبي المباشر إلى أكثر من ألف بليون دولار، وكذلك تستخدم الصين القروض الأجنبية في مشاريع بناء كبيرة ومتوسطة، ووافقت الصين خلال الفترة بين عامي 1999-2000 على 315 ألف مشروع استثماري أجنبي بقيمة تعاقدية قدرها 600 بليون دولار، لتصبح الصين ثاني أكبر مستقبل للاستثمارات في العالم بعد أميركا. ومن أبرز وسائل استخدام الاستثمار الأجنبي أولاً: توقيع قروض مختلفة بين الصين والحكومات الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية، وثانياً: اجتذاب استثمارات أجنبية مباشرة بتأسيس مؤسسات استثمارية مشتركة وتعاون إداري واستثمار شخصي للتجار الأجانب... وفي اعتقادي أن تجربة الانفتاح على العالم الخارجي في الصين تجربة مثيرة تستحق الدراسة والإعجاب، ويمكن لنا في السعودية أن نستفيد من هذه التجربة الغنية، إذ تتزايد الاستثمارات الأجنبية بمعدلات سريعة وفائقة. إن السر، حسناً"لم يعد أبداً سراً"، ولنسمه"الطبخة"إذاً هو أن حكومتهم وصلت إلى مستوى عال جداً من المرونة في التيسير على المستثمرين الأجانب إلى حد يصعب معه على هؤلاء المستثمرين إذا ما اقتربوا من التجربة الصينية أن يقاوموا إغراء الاستثمار والتسهيلات هناك. في شكل عام، وبحسب تحليل قراءة التجربة الصينية، وضعت بكين مبادئ وسياسات أساسية لدعم وجذب وتشجيع واستخدام الاستثمار الأجنبي، من أهمها: أولاً: كسب العون والدعم الأجنبي كعامل مساعد وأن تكون لدى الصين قدرة على هضم الرساميل الأجنبية.، ثانياً: المثابرة في الاعتماد على الذات كعامل رئيس، ثالثا: المثابرة على مبدأ المنفعة المتبادلة وضمان حقوق ومصالح الطرفين الصيني والأجنبي، رابعاً: استيراد التقنيات المتقدمة القابلة للتطبيق في الصين، خامساً: تطوير الفعالية الاقتصادية للرساميل الأجنبية من خلال استخدام أسلوب الإدارة العلمية وزيادة أصناف المنتجات ورفع كميتها وجودتها، سادساً: الحصول على اكبر المكاسب من اقل الاستثمارات، سابعاً: توسيع الصادرات بالعملة الصعبة، ثامناً: إعطاء معاملة تفضيلية للأجانب الذين يشتركون في مشاريع مشتركة لا سيما في ضرائب الدخل، تاسعاً: إعفاء المشاريع التقنية العالية من ضرائب الدخل، عاشراً: إعطاء أفضلية في ضرائب الصناعة للمؤسسات الاستثمارية المشتركة في حال تعرضت للخسارة إذ يمكن إعفاؤها من الضريبة، حادي عشر: إعفاء الأجانب في المؤسسات الاستثمارية المشتركة من الرسوم الجمركية والضرائب كافة، الثاني عشر: ضمان حقوق الأجانب في تسيير إدارة المؤسسات الاستثمارية المشتركة. ومن المنطقي الإشارة إلى أن الصين حققت سرعة في السير صوب نظام اقتصاد السوق الاجتماعي في إطار التوجه الاقتصادي عبر التركيز على التسهيلات للوصول إليه، وإضافة إلى الترويج لثقافة التصدير من خلال مزيج من الترويج والتسويق والإعلان والتسهيل وجذب الاستثمارات، والتوجه الجغرافي بإقامة الصين ما يسمى مناطق اقتصادية خاصة ومدناً مفتوحة، وإتاحة هذه المناطق لإقامة صلات مع السوق العالمية، وتميزت هذه المناطق بقدر كبير من الاستقلال الإداري في مجالات الاستثمار والتسعير وسياسات العمالة وإدارة الأراضي وتقديم الحوافز والتسهيلات والإعفاءات للمستثمرين. وفوق ذلك كله، التوجه القطاعي إذ اهتمت الصين بقطاعات معينة للصادرات وإقامة شبكات إنتاج للصادرات، بهدف تنشيط صادرات المؤسسات عالية المستوى في إطار صناعات تستهدف الاحتفاظ بالنقد الأجنبي والحصول عليه، والتركيز على نظام متحرر لمعاملة الاستثمارات الأجنبية، من حيث سياسات التوظيف والأجور، والتسعير، وحرية استخدام العمال، والإعفاء من الدعم الحكومي، وإعفاء الأرباح المحولة إلى الخارج من الضرائب، وعدم وجود رسوم إطلاقاً للانتفاع بالأرض. كما أصدرت الصين أكثر من 200 قانون ولائحة اقتصادية متعلقة بالشؤون الخارجية للمستثمرين، ووضعت ضمانات قانونية ودليل إرشاد للمستثمر الأجنبي، كما دعمت تأسيس مجموعة مصارف لتشجيع وتسهيل الاستثمار الأجنبي، أهمها مصرف الاستثمار الصيني، الذي هدفه جمع الأموال الأجنبية لتطوير اقتصاد الصين، وكذلك الشركة الصينية للائتمان والاستثمار ومهمتها اجتذاب الاستثمارات الأجنبية واستيراد المعدات المتقدمة، وأساليب إدارة المؤسسات والقيام باستثمارات البناء والقيام باستثمارات داخل وخارج الصين. ولعل تجربة الاستثمار الأجنبي في المدن الصينية وفي مقدمها مدينة شنغهاي تعد قلب التجارة والصناعة في الصين، إذ تمت إقامة منطقة جديدة شرق شنغهاي تمتعت بمعاملة تفضيلية للاستثمار الأجنبي. وركزت الاستراتيجية في هذه المدينة، على مفهوم المدينة العالمية التي تتوافر فيها قاعدة صناعية وقطاعات مالية وتجارية وخدمية متقدمة، والتركيز على العمالة الكثيفة والتكيف مع آليات السوق، ما حوَّل شنغهاي إلى مركز الصين الاقتصادي والتجاري والتقني، إضافة إلى رفع المستوى التقني للاقتصاد الصيني، إذ أعطت استراتيجية شنغهاي الأولوية لتطوير التقنية المتقدمة، لا سيما في مجال الدوائر الالكترونية المتكاملة وأجهزة الكومبيوتر وصناعة أجهزة الاتصالات. وحرص الصينيون على تحويل المدينة إلى اكبر مركز مالي في المنطقة الآسيوية إذ تضم حالياً أهم أسواق الصينالمالية مثل سوق الأسهم والسندات والسلع والعملات. ونتيجة لذلك كله، أصبحت شنغهاي"رأس التنين"حيث يعيش فيها 350 مليون إنسان في رخاء اقتصادي، كما تمثل أكبر تجربة صينية في مجال تطبيق آليات السوق الظاهرة والخفية لدعم اقتصاد السوق من جانب الدولة، وحققت استراتيجية شنغهاي نتائج مثيرة للإعجاب، إذ يبلغ معدل النمو السنوي في شنغهاي 14 في المئة، وتعتبر أكبر موقع تنمية في العالم في الوقت الحاضر... كما توجد تجارب أخرى مثيرة خصوصاً مدينة شي غن في منطقة متاخمة لهونغ كونغ وتبلغ مساحتها 2000 كيلو متر مربع، وهي تنافس هونغ كونغ في كل شيء في ناطحات السحاب والمصارف والبورصات والشركات الأجنبية والأسواق التجارية والحياة المفتوحة. يبقى السؤال لنا كسعوديين، هل يمكننا تطبيق مفاتيح"الانفتاح"الصيني ونستطيع هضم"شركاته ومستثمريه"، خصوصاً أن تجربة هيئة الاستثمار لا تزال"تكافح"من أجل"البقاء"؟ * كاتب اقتصادي. [email protected]